الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فائدة في التحديث :

وقد اختلف العلماء في هذا المعنى ، فحكي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله ، وهو قول الجمهور .

ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة وقال مجاهد : انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه .

وكان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاء والياء ونحو هذا ، وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحونا ويعلمون ذلك ، ولا يغيرونه .

وروى أبو مجلز عن قيس بن عباد قال : قال عمر بن الخطاب : من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم ، وروي نحوه عن عبد الله بن عمرو وزيد بن أرقم وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ، ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ ، وذلك هو الأحوط في الدين والأتقى والأولى ، ولكن أكثر العلماء على خلافه ، والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة ، وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ، ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ، ولا كتبها .

وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال : ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم ، حسبكم المعنى .

وقال قتادة عن زرارة بن أوفى : لقيت عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا علي في [ ص: 387 ] اللفظ ، واجتمعوا في المعنى ، وكان النخعي والحسن والشعبي - رحمهم الله - يأتون بالحديث على المعاني ، وقال الحسن : إذا أصبت المعنى أجزأك .

وقال سفيان الثوري - رحمه الله - : إذا قلت لكم : إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني ، إنما هو المعنى .

وقال وكيع رحمه الله : إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس .

واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم وذلك هو النقل بالمعنى ، وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف ، فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد ، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي ، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والإلغاء والزيادة والنقصان ، وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز بالعربية أولى ، احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي ، وهو الصحيح في الباب .

فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها كما سمعها وذكر الحديث وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه : آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ، فقال الرجل : ورسولك الذي أرسلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ونبيك الذي أرسلت قالوا : أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال : فأداها كما سمعها قيل لهم : أما قوله : فأداها كما سمعها فالمراد حكمها لا لفظها ؛ لأن اللفظ غير معتد به ، ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله : فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة ، لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة ، وذلك أدل على الجواز ، وأما رده - عليه [ ص: 388 ] السلام - الرجل من قوله : ( ورسولك إلى قوله : ونبيك ) لأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع ، ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام . . . ؟ ! وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة ، فلما قال : ( ونبيك ) جاء بالنعت الأمدح ثم قيده بالرسالة بقوله : ( الذي أرسلت ) وأيضا فإن نقله من قوله : ( ورسولك إلى قوله : ونبيك ) ليجمع بين النبوة والرسالة ومستقبح في الكلام أن تقول : هذا رسول فلان الذي أرسله ، وهذا قتيل زيد الذي قتله ؛ لأنك تجتزئ بقولك : رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل ، إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول ، وإنما يحسن أن تقول : هذا رسول عبد الله الذي أرسله إلى عمرو ، وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أو في وقعة كذا ، والله ولي التوفيق . فإن قيل إذا جاز للراوي الأول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغيير ألفاظ الأول ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها ، قيل له : الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا ، فإن عدمت لم يجز ، قال ابن العربي : الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية ، وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت والفهوم قد تباينت والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق . والله أعلم .

قال بعض علمائنا : لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله ، فإن الجواز إذا كان مشروطا بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ، ولهذا لم يفصل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل ، نعم ، لو قال : المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية