وبوئت في صميم معشرها فتم في قومها مبوؤها
وقال في حديث جندب : فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث على أن الرأي معني به الهوى ; من لم يأخذه عن أئمة السلف فأصاب فقد أخطأ ، لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله ، ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه . وقال قال في القرآن قولا يوافق هواه ابن عطية : " ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله عز وجل فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء ، واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول ; وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر [ ص: 46 ] اللغويون لغته والنحويون نحوه والفقهاء معانيه ، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر ; فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه .قلت : هذا صحيح وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء ، فإن من قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ ، وإن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على معناها فهو ممدوح .
وقال بعض العلماء : إن التفسير موقوف على السماع ; لقوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] . وهذا فاسد ; لأن لا يخلو : إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط ، أو المراد به أمرا آخر . وباطل أن يكون المراد به ألا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه ; فإن النهي عن تفسير القرآن ، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الصحابة رضي الله عنهم قد قرءوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه وقال : لابن عباس . فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك ! وهذا بين لا إشكال فيه ; وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " النساء " إن شاء الله تعالى . وإنما النهي يحمل على أحد وجهين : أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي ، وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتج على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى . وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته ، وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك ، ولكن مقصوده أن يلبس على خصمه ; وتارة يكون مع الجهل ، وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ، ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه فيكون قد فسر برأيه ، أي رأيه حمله على ذلك التفسير ، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه . وتارة يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به ، كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول : قال الله تعالى : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل اذهب إلى فرعون إنه طغى ويشير إلى قلبه ، ويومئ إلى أنه المراد بفرعون ; وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع ، وهو ممنوع لأنه قياس في اللغة وذلك غير جائز . وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطلة ، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون قطعا أنها غير مرادة . فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي .
الوجه الثاني : أن يتسارع إلى ، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة ، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير ; فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي . والنقل والسماع لا بد له منه في ظاهر [ ص: 47 ] التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط . والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة ، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ; ألا ترى أن قوله تعالى : تفسير القرآن بظاهر العربية وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها [ الإسراء : 59 ] معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها ; فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة ، ولا يدري بماذا ظلموا ، وأنهم ظلموا غيرهم وأنفسهم ، فهذا من الحذف والإضمار ; وأمثال هذا في القرآن كثير ، وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه . والله أعلم .
قال ابن عطية : " وكان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وغيرهما يعظمون تفسير القرآن ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم . قال وعامر الشعبي أبو بكر الأنباري : وقد كان الأئمة من السلف الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن ; فبعض يقدر أن الذي يفسره لا يوافق مراد الله عز وجل فيحجم عن القول . وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماما يبنى على مذهبه ويقتفى طريقه . فلعل متأخرا أن يفسر حرفا برأيه ويخطئ فيه ويقول : إمامي في تفسير القرآن بالرأي فلان الإمام من السلف . وعن قال : سئل ابن أبي مليكة أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير حرف من القرآن فقال : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني ! وأين أذهب ! وكيف أصنع ! إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى .
قال ابن عطية : ( كان جلة من السلف كثير عددهم يفسرون القرآن وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي الله عنهم ; فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ويتلوه وهو تجرد للأمر وكمله ، وتبعه العلماء عليه عبد الله بن عباس كمجاهد وغيرهما ، والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من المحفوظ عن وسعيد بن جبير علي ) . وقال ابن عباس : ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب . وكان علي رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويحض على الأخذ عنه ، وكان ابن مسعود يقول : نعم ترجمان القرآن . وقال عنه عبد الله بن عباس علي رضي الله عنه : ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق . ويتلوه عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت . وكل ما أخذ عن الصحابة فحسن مقدم لشهودهم التنزيل ونزوله بلغتهم . وعن وعبد الله بن عمرو بن العاص قال : شهدت عامر بن واثلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخطب فسمعته يقول في خطبته : سلوني ، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به ، سلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا أنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل نزلت أم في جبل ; فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ، ما الذاريات ذروا ؟ وذكر الحديث . وعن قال : قال المنهال بن عمرو لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه المطي لأتيته ; فقال له رجل : أما لقيت عبد الله بن مسعود علي بن أبي طالب ؟ فقال : بلى ، قد لقيته . وعن مسروق قال : وجدت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل الإخاذ يروي الواحد والإخاذ يروي الاثنين ، والإخاذ لو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم ، وأن من تلك الإخاذ . ذكر هذه المناقب عبد الله بن مسعود أبو بكر الأنباري في كتاب الرد ، وقال : الإخاذ عند العرب : الموضع الذي يحبس الماء كالغدير . قال [ ص: 48 ] أبو بكر : حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا سلام عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبي سعيد الخدري أرحم أمتي بها أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأفرضهم زيد وأقرؤهم لكتاب الله عز وجل أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وعاء من العلم وأبو هريرة وسلمان بحر من علم لا يدرك وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء - أو قال البطحاء - من ذي لهجة أصدق من أبي ذر " .
قال ابن عطية : ومن المبرزين في التابعين الحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وعلقمة . قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهم ووقوف عند كل آية ; ويتلوهم عكرمة والضحاك وإن كان لم يلق ابن عباس ، وإنما أخذ عن ; وأما ابن جبير فكان السدي عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح ; لأنه كان يراهما مقصرين في النظر .
قلت وقال : يحيى بن معين الكلبي ليس بشيء . وعن عن يحيى بن سعيد القطان سفيان قال : قال الكلبي قال أبو صالح : كل ما حدثتك كذب . وقال حبيب بن أبي ثابت : كنا نسميه الدروغ زن - يعني - والدروغ زن : هو الكذاب بلغة الفرس . ثم حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : أبا صالح مولى أم هانئ . خرجه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين أبو عمر وغيره . قال : وهذه شهادة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم أعلام الدين وأئمة المسلمين لحفظهم الشريعة من التحريف ، والانتحال للباطل ، ورد تأويل الأبله الجاهل ; وأنه يجب الرجوع إليهم ، والمعول في أمر الدين عليهم ، رضي الله عنهم . الخطيب أبو بكر أحمد بن علي البغدادي
قال ابن عطية : وألف الناس فيه كعبد الرزاق والمفضل وعلي بن أبي طلحة وغيرهم . ثم إن والبخاري محمد بن جرير - رحمه الله - جمع على الناس أشتات التفسير ، وقرب البعيد منها وشفى في الإسناد . ومن المبرزين من المتأخرين أبو إسحاق الزجاج ; وأما وأبو علي الفارسي أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما . وعلى سننهما مكي بن أبي طالب رضي الله عنه . وأبو العباس المهدوي متقن التأليف ، وكلهم مجتهد مأجور رحمهم الله ، ونضر وجوههم .