الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 194 ] عبادة بعض الناس للمسيح وللأولياء دون موسى :

                          وإنما عبد بعض البشر عيسى واتخذوه إلها ولم يعبدوا موسى كذلك وآياته أعظم ; لأنهم جهلوا أن آيات عيسى جارية على سنن روحية عامة قد يشاركه فيها غيره ، فظنوا أنه يفعلها بمحض قدرته التي هي عين قدرة الخالق سبحانه لحلوله فيه واتحاده به بزعمهم وآيات موسى بمحض قدرة الله وحده ، ولم يفطنوا لاتباع عيسى لموسى في شرعه - التوراة - إلا قليلا مما نسخه الله على لسانه من إحلال بعض ما حرم عليهم بظلمهم عقوبة لهم ، ومن تحريم ما كانوا عليه من الغلو في عبادة المال والشهوات .

                          ومثل النصارى في هذا من يفتتنون من المسلمين بعبادة الصالحين بدعائهم في الشدائد ، لاعتقادهم أنهم يدفعون عنهم الضر ويجلبون لهم النفع بالتصرف الغيبي الخارج عن سنن الله في الأسباب والمسببات ، الداخل عندهم في باب الكرامات ، وهو خاص بالرب تعالى ، ولكنهم لا يطلقون على أحد منهم اسم الرب ولا الإله ولا الخالق ، إذ الأسماء اصطلاحية ، وإنما الفرقان بين الخالق والمخلوق والرب والمربوب ، أن الرب الخالق هو القادر على النفع والضر لمن شاء وصرفهما عمن شاء بما يسخره من الأسباب وبدونها إن شاء - وأن المخلوق المربوب هو المقيد في أفعاله الكسبية الاختيارية في النفع والضر بسنن الله تعالى في الأسباب والمسببات التي سخرها تعالى لجميع خلقه ، ولكنهم يتفاوتون في العلم والعمل بها كما يتفاوتون في الاستعداد لها بقوى العقل والحواس والأعضاء وفي وسائلها ، وقد بلغ البشر بالعلم والعمل الكسبيين من المنافع ودفع المضار ما لم يعهد مثله لأحد من خلق الله قبلهم لا الأنبياء ولا غيرهم ; لأن الأنبياء المرسلين لم يبعثوا لهذا ، وإنما بعثوا لهداية الناس إلى معرفة الله وعبادته وتهذيب أخلاقهم بها ، فمنافع الدنيا لا تطلب منهم أحياء ولا أمواتا وإنما تطلب من أسبابها ، وما وراء الأسباب لا يقدر عليه إلا الله عز وجل . وقد قتل الظالمون بعض الأنبياء والأولياء ، وآذوا بعضهم بضروب من الإيذاء ولم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم ; ولذلك تكرر في القرآن الحكيم نفي هذا النفع والضر عن كل ما عبد ومن عبد من دون الله بالذات أو بالشفاعة عند الله تعالى ، كما قال : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ( 10 : 18 ) الآية ومثلها آيات ، وأمر خاتم رسله أن يعلم الناس ذلك كما فعل من قبله من الرسل فقال : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) ( 7 : 188 ) وقال : ( قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ) ( 72 : 21 ) الآيات . وقد فصلنا هذه المسألة مرارا .

                          [ ص: 195 ] ونلخص الموضوع هنا في المسائل الآتية :

                          ( 1 ) إن الله تعالى قد أتقن كل شيء خلقه فجعله بإحكام ونظام لا تفاوت فيه ولا اختلال ، وسنن مطردة ربط فيها الأسباب بالمسببات . فمخلوقاته العليا والسفلى هي مظهر أسمائه وصفاته العلى ولهذا قال حجة الإسلام الغزالي : ليس في الإمكان أبدع مما كان . وهذا النظام المطرد في الأكوان ، الثابت بالحس والعقل ونصوص القرآن - هو البرهان الأعظم على وحدانية خالق السماوات والأرض ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ( 21 : 22 ) .

                          ( 2 ) إن سنن الله تعالى في إبداع خلقه ونظام الحركة والسكون والتحليل والتركيب فيه لا يحيط بها علما غيره عز وجل . وكلما ازداد البشر فيها نظرا وتفكرا واختبارا وتدبرا وتجربة وتصرفا ، ظهر لهم من أسرارها وعجائبها ما لم يكونوا يعلمون ولا يظنون ، ومن منافعها ما لم يكونوا يتخيلون ولا يتوهمون . وها نحن أولاء نرى مراكبهم الهوائية من تجارية وحربية تحلق في الأجواء ، حتى تكاد تتجاوز محيط الهواء ، ومراكبهم البحرية تغوص في لجج البحار ، ونراهم يتخاطبون من مختلف الأقطار ، كما نطق الوحي بتخاطب أهل الجنة مع أهل النار فيسمع أهل المشرق أصوات أهل المغرب ، وأهل الجنوب حديث أهل الشمال وخطبهم وأغانيهم قبل أن يسمعها بعض أهل البلد أو المكان الذي يصدر عنه الكلام . وقد يغمز أحدهم زرا كهربائيا في قارة أوربة فتتحرك بغمزته آلات عظيمة في قارة أخرى في طرفة عين ، وبينهما المهامه الفيح والجبال الشاهقة ، ومن دونهما البحار الواسعة ، والجاهلون بهذه السنن الإلهية ، والعلوم العملية ، لا يزالون يلجئون في طلب المنافع ودفع المضار من غير طريق الأسباب - التي ضيق الجهل عليهم سبلها - إلى قبور الموتى من الصالحين المعروفين والمجهولين ليقضوا لهم حاجتهم ، ويشفوا مرضاهم ، ويعينوهم على أعدائهم من زوج وقريب وجار ووطني ، وأعداؤهم من الأجانب قد سادوا حكومتهم ، واستذلوا أمتهم ، واستأثروا بجل ثروتهم ولا يتصرف فيهم هؤلاء الأولياء بما يدفع عن المسلمين ضررهم وتحكمهم .

                          ( 3 ) إن الأصل في كل ما يحدث في العالم أن يكون جاريا على نظام الأسباب والمسببات وسنن الله التي دل عليها العلم ، وأخبرنا الوحي بأنه لا تغيير فيها ولا تبديل لها ولا تحويل فكل خبر عن حادث يقع مخالفا لهذا النظام والسنن فالأصل فيه أن يكون كذبا اختلقه المخبر الذي ادعى شهوده أو خدع به ولبس عليه فيه فإن كان قد وقع فلا بد أن يكون له سبب من الأسباب الخفية التي يجهلها المخبر كما حققه علماء الأصول في بحث الخبر وما يقطع بكذبه منه .

                          [ ص: 196 ] ( 4 ) إن آيات الله التي تجري على غير سننه الحكيمة في خلقه لا يمكن العلم بها إلا بدليل قطعي ، وقد كان من حكمته أن أيد بعض النبيين المرسلين بشيء منها لإقامة حجتهم وتخويف المعاندين لهم ، وقد انقطعت هذه الآيات بختم النبوة والرسالة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وسبب ذلك أو حكمته ختم النبوة برسالته . وجعل ما أوحاه إليه آية دائمة وهداية عامة لجميع البشر مدة بقائهم في هذه الدنيا ، وأنزل عليه : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( 21 : 107 ) لعلمه تعالى بأنهم لا يحتاجون بعد هذا الوحي إلى وحي آخر ولا إلى آية على كونه من عند الله تعالى إلا هذا القرآن نفسه ، وقد تقدم بيان دلالته العقلية على كونه من عند الله تعالى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية