الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3- اللغة كأداة تأثير:

عندما كلف الله موسى، عليه السلام، بمهمة التبليغ راجع موسى ربه في مسألة ملكة البيان والقدرة على الإفصاح، كلازم من لزوم نجاح المهمة، فطلب من المولى، عز وجل، أن يعززه بأخيه هارون، عليه السلام، الأكثر فصاحة وبيانا: ( قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ) (الشعراء:12-13).

قال الطبري في جامع البيان: ( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ) أحسن بيانا عما يريد أن يبينه، قال سعيد: ( عقدة من لساني ) ، قال: عجمة لـجمرة نار أدخـلها فـي فـيه عن أمر امرأة فرعون, ترد به عنه عقوبة فرعون, حين أخذ موسى بلـحيته وهو لا يعقل, فقال: هذا عدو لـي, فقالت له: إنه لا يعقل" [1] .

أدرك أن الفصاحة سبب للفهم، وأن ركاكة الأسلوب وضعف التوصيل مظنة للتكذيب ( قال رب إني أخاف أن يكذبون ) ، ولعل فرعون تنبه إلى هذه الخصيصة في موسى فقال معيرا إياه: ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) (الزخرف:52) قال بعض المفسرين ( ولا يكاد يبين ) يريد أنه عي اللسان ضعيف البيان، لذلك استجاب الله لموسى دعوته: ( قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ) (طه:36) ، ( قال سنشد عضدك بأخيك ) (القصص:35). [ ص: 28 ]

وقيل: إن الله قد أجاب دعوة موسى، عليه السلام، حين قال: ( واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي ) (طه:27-28) فكان بعدها فصيحا بليغا، وحلت عقدة لسانه فعلا، وعاد يبين [2] .

يتبين من هنا أن بين الكلمة وأهدافها مسافة لا يطويها سوى اللغة الواضحة، والحجة البالغة كما يقول ربنا: ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) (الأنعام:149).

قال البيضاوي: " ( الحجة البالغة ) البينة الواضحة، التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه وهي من الحج بمعنى القصد، كأنها تقصد إثبات الحكم وتطلبه. وقال القرطبي: أي التي تقطع عذر المحجوج؛ وتزيل الشك عمن نظر فيها. فحجته البالغة على هذا تبيينه أنه الواحد، وإرساله الرسل والأنبياء؛ فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات، وأيد الرسل بالمعجزات، ولزم أمره كل مكلف" [3] .

وحاجة الإسلام اليوم أكثر ما تكون إلى الداعية المتمكن، التي تسير كلماته كحزمة ضوء مسددة لا تخطئ الهدف، بل تصيب العقول والنفوس، فتؤثر فيهما وتغير مجرى حياة الفرد إلى واقع يسعى الإسلام إلى تحقيقه بمعاني الاستقامة والطهر، وهو ما يحتاجه بعض الدعاة، فهناك من لا تنقصهم الأفكار [ ص: 29 ] وقد تنقصهم طريقة التوصيل، وهناك من لا تنقصهم العاطفة ولكن ينقصهم المعجم الدعوي والذائقة الأسلوبية والعقل الراجح.

وربما كان اللسان في مواضع أمضى من السنان، وأوقع في النفوس من وقع السيوف، وإن صاحب اللسان الذلق والوجه الطلق أقدر من غيره على اللعب بالقلوب والتحكم فيها، وإن لجماليات اللغة وحسن الإلقاء لقدرة سحرية وفاعلية كبرى في تحديد الاتجاهات، وهذا ما نجده في الحديث الذي رواه ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحرا ) [4] .

وما يلفت الانتباه أن قوة البيان قد تكون أحيانا أبلغ في التأثير من قوة الحجة، وقد يأتي البليغ من الناس الذي يملك القدرة على صوغ الألفاظ فيكسب الناس بمعسول لسانه ونظم بيانه، لذا قال صلى الله عليه وسلم : ( إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان ) [5] .

وفي هذا الحديث موضع تأمل، فقد أسند العلم إلى اللسان، وإنما المراد به كما يظهر، الحذاقة والمهارة، ومعرفة الإنسان بأسرار اللغة، والقدرة على التلاعب بها وتطويعها لأفكاره، وسحر الناس بتعدد طرائقه في الطرح، وهذه المعاني يضيئها أيضا إشراق قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنها ستكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف ) [6] . [ ص: 30 ]

إن هذا الحديث خطير في مفهومه ودلالة معناه، ظاهر الإعجاز في تقييم الدور التأثيري لسلاح الكلمة، ومن الملاحظ أن فتنا كهذه قد مرت بالعرب، وأن أحد الشفرات وأمضاها تأثيرا على كيان الأمة العربية اليوم هو سلاح الكلمة الممثل بالدعاية التضـليلية، ولم يسبـق للإنسـان أن شهد مثل وسائل الاتصالات التي أصبحت بمثابة ثورة انقلابية غيرت مجرى الحياة، وثروة إنسانية تركت الأبواب مشرعة أمام حاجيـات الخلق جميعا! فهل من المعقول أن تظل هـذه النعمـة شـاغرة لكل طـاعن في الدين حاقـد عليه، من كافة الملل والنحل، والمشارب والأهواء التي جندت الإعلام للمسـخ والترويج لألوان الفجـور، في حين لم يصل بعد جهاد الكلمة عبر الوسائط الإعلامية إلى مستـوى مشروع ومنهج ينافس ولو بجزء بسيط ما يقوم به أئمة الضلالة، أو الدور التنصيري الذي اخترق حجب الفضـاء وغزا العالـم بأساطيل إعـلامية جبـارة لا مجال للمقارنة، وكم من القنوات اليوم تبث سموم الشبهات والشهوات آناء الليل وأطراف النهار، كما قال الله: ( بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا ) (سبأ:33)، وأصبحت الساحة الإسلامية مكب نفايات للأفكار الباطلة، ولا يوجد من القنوات الإسلامية العدد الذي يغني عن صد هذه الهجمة، وهناك قنوات كثيرة تسمي نفسها إسلامية تطرح أفكارا خرافية هدامة، فلا يجب أن ننخدع بها، فبريقها خادع وسمها ناقع. [ ص: 31 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية