[ ص: 328 ] المسألة الخامسة
، وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع ، فلنضع في كل قسم مسألة ، فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل ; فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقا ، فيما كان بريئا من الحظ وفيما روعي فيه الحظ ، لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع ; إذ تقدم أن العمل إذا وقع على وفق المقاصد الشرعية ; فإما على المقاصد الأصلية ، أو المقاصد التابعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله ، وهذا كاف هنا . المقصود الشرعي في التشريع
وينبني عليه قواعد وفقه كثير :
من ذلك أن المقاصد الأصلية إذا روعيت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة ، وأبعد عن مشاركة الحظوظ التي تغير في وجه محض العبودية .
وبيان ذلك أن حظ الإنسان ليس بواجب أن يراعيه من حيث هو حظه ، على قولنا : إن إثبات الشرع له وإباحة الالتفات إليه إنما هو مجرد تفضل امتن الله به ; إذ ، وهو أيضا جار على القول بالوجوب العقلي ; فمجرد قصد الامتثال للأمر والنهي أو الإذن كاف في [ ص: 329 ] حصول كل غرض ، في التوجه إلى مجرد خطاب الشارع ، فالعامل على وفقه ملبيا له ; برئ من الحظ ، وفعله واقع على الضروريات وما حولها ثم يندرج حظه في الجملة ، بل هو المقدم شرعا على الغير . ليس بواجب على الله مراعاة مصالح العبيد
فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر ، أو اعتبارا بعلة الأمر ، وهو القصد إلى إحياء النفوس على الجملة وإماطة الشرور عنها ، كان هو المقدم شرعا : " " ، أو كان قيامه بما قام به قياما بواجب مثلا ، ثم نظره في ذلك الواجب قد يقتصر على بعض النفوس دون بعض ، كمن يقصد القيام بحياة نفسه من حيث هو مكلف بها ، أو بحياة من تحت نظره ، وقد يتسع نظره فيكتسب ليحيي به من شاء الله ، وهذا أعم الوجوه وأحمدها وأعودها بالأجر ; لأن الأول قد يفوته فيه أمور كثيرة ، وتقع نفقته حيث لم يقصد ، ويقصد غير ما كسب وإن كان لا يضره فإنه لم يكل التدبير إلى ربه ، وأما الثاني ; فقد جعل قصده وتصرفه في يد من هو على كل شيء قدير ، وقصد أن ينتفع بيسيره عالم كبير لا يقدر على حصره ، وهذا غاية في التحقق بإخلاص العبودية ، ولا يفوته من [ ص: 330 ] حظه شيء . ابدأ بنفسك ثم بمن تعول
بخلاف مراعاة المقاصد التابعة ; فقد يفوته معها جل هذا أو جميعه ; لأنه إنما يراعي مثلا زوال الجوع أو العطش أو البرد أو قضاء الشهوة أو التلذذ بالمباح مجردا عن غير ذلك ، وهذا وإن كان جائزا ; فليس بعبادة ولا روعي فيه قصد الشارع الأصلي ، وهو منجر معه ، ولو روعي قصد الشارع لكان العمل امتثالا ; فيرجع إلى التعلق بمقتضى الخطاب كما تقدم ، فإذا لم يراع ; لم يبق إلا مراعاة الحظ خاصة ، هذا وجه .
ووجه ثان أن المقاصد الأصلية راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي من غير نظر في شيء سوى ذلك ، وهو بلا شك طاعة للأمر وامتثال لما أمر لا داخلة فيه ، وإما إلى ما فهم من الأمر من أنه عبد استعمله سيده في سخرة عبيده ; فجعله وسيلة وسببا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء .
[ ص: 331 ] وهذا أيضا لا يخرج عن اعتبار مجرد الأمر ; فهو عامل بمحض العبودية ، مسقط لحظه فيها ; فكأن السيد هو القائم له بحظه ، بخلاف العامل لحظه ; فإنه لما لم يقم بذلك من حيث مجرد الأمر ، ولا من حيث فهم مقصود الأمر ، ولكنه قام به من جهة استجلاب حظه أو حظ من له فيه حظ ; فهو إن امتثل الأمر فمن جهة نفسه ، فالإخلاص على كماله مفقود في حقه ، والتعبد بذلك العمل منتف ، وإن لم يمتثل الأمر ; فذلك أوضح في عدم القصد إلى التعبد ، فضلا عن أن يكون مخلصا فيه ، وقد يتخذ الأمر والنهي عاديين لا عباديين ، إذا غلب عليه طلب حظه ، وذلك نقص .
ووجه ثالث وهو أن القائم على المقاصد الأول قائم بعبء ثقيل جدا ، وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ في الغالب ، بل يطلب حظه بما هو أخف ، وسبب ذلك أن هذا الأمر حالة داخلة على المكلف شاء أو أبى ، يهدي الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده ، ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف ، وقد قال تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [ المزمل : 5 ] .
فمثل هذا لا يكون إلا مع اختصاص زائد ، بخلاف طالب الحظ ; فإنه [ ص: 332 ] عامل بنفسه ، وغير مستويين فاعل بربه وفاعل بنفسه ، فالأول محمول ، والثاني عامل بنفسه ، فلذلك قلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق ، فإن رأيت من يدعي تلك الحال ; فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام ، فإن أوفى به ; فهو ذاك ، وإلا ; علمت أنه متقول قلما يثبت عند ما ادعى ، وإذا ثبت أن صاحب المقاصد الأول محمول ; فذلك أثر من آثار الإخلاص ، وصاحب الحظ ليس بمحمول ذلك الحمل إلا بمقدار ما نقص عنده حظه ، فإذا سقط حظه ثبت قصده في المقاصد الأول ، وثبت له الإخلاص ، وصارت أعماله عبادات .
فإن قيل : فنحن نرى كثيرا ممن يسعى في حظه وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين ، بل قد جاء عن سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحب الطيب ، والنساء ، والحلواء والعسل ، وكان تعجبه الذراع ، ويستعذب له الماء ، وأشباه ذلك مما هو اتباع لحظ النفس ; إذا كان لا يمتنع مما يشتهيه من الحلال ، بل كان يستعمله إذا وجده ، وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين ، وهو أتقى الخلق وأزكاهم ، وكان خلقه القرآن ، فهذا في هذا الطرف .
ونرى أيضا كثيرا ممن يسقط حظ نفسه ويعمل لغيره أو في مصالح العباد بمقتضى ما قدر عليه صادقا في عمله ، ومع ذلك فليس له في الآخرة من [ ص: 333 ] خلاق ، ككثير من رهبان النصارى وغيرهم ممن تزهد وانقطع عن الدنيا وأهلها ، ولم يلتفت إليها ولا أخطرها بباله ، واتخذ العبادة والسعي في حوائج الخلق دأبا وعادة ; حتى صار في الناس آية ، وكل ما يعمله مبني على باطل محض ، وبين هذين الطرفين وسائط لا تحصى تقرب من الفريقين .
فالجواب من وجهين :
أحدهما :
أن ما زعمت ظواهر ، وغائبات الأمور قد لا تكون معلومة ; فانظر ما قاله الإسكاف في " فوائد الأخبار " في قوله عليه الصلاة والسلام : يلح لك من ذلك المطلع خلاف ما توهمت من طلب الحظ الصرف إلى طلب الحق الصرف ، ويدل عليه أنه جعل من الثلاث الصلاة ، وهي أعلى العبادات بعد الإيمان ، وهكذا يمكن أن يقال في سواها . حبب إلي من دنياكم ثلاث
وأيضا ; فإنه لا يلزم من حب الشيء أن يكون مطلوبا بحظ لأن الحب أمر باطن لا يملك ، وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال ; فمن أين لك أنه كان عليه الصلاة والسلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ ، دون أن يتناوله من حيث الإذن ؟ وهذا هو عين البراءة من الحظ ، وإذا تبين هذا في القدوة الأعظم - صلى الله عليه وسلم - تبين نحوه في كل مقتدى به ممن اشتهرت ولايته .
وأما الكلام عن الرهبان ، فلا نسلم أنها مجردة من الحظ ، بل هي عين الحظ ، واستهلاك في هوى النفس ; لأن الإنسان قد يترك حظه في أمر إلى حظ هو أعلى منه ، كما ترى الناس يبذلون المال في طلب الجاه ; لأن حظ النفس في الجاه أعلى ، ويبذلون النفوس في طلب الرياسة حتى يموتوا في طريق ذلك ، وهكذا الرهبان قد يتركون لذات الدنيا للذة الرياسة والتعظيم ; فإنها أعلى ، وحظ الذكر والتعظيم والرياسة والاحترام والجاه القائم في الناس من أعظم الحظوظ [ ص: 334 ] التي يستحقر متاع الدنيا في جنبها ، وذلك أول منهي في مسألتنا ; فلا كلام فيمن هذا شأنه ، ولذلك قالوا : " حب الرياسة آخر ما يخرج من رءوس الصديقين " ، وصدقوا .
والثاني : أن طلب الحظوظ قد يكون مبرءا من الحظوظ ، وقد لا يكون كذلك ، والفرق بينهما أن الباعث على طلبه أولا إما أن يكون أمر الشارع أو لا ، فإن كان أمر الشارع ، فهو الحظ المبرأ المنزه ; لأن نفسه عنده تنزلت منزلة غيره ، فكما يكون في مصالح غيره مبرء عن الحظ ، كذلك يكون في مصالح نفسه ، وذلك بمقتضى القصد الأول ، وهذا شأن من ذكر في السؤال ، ولا يعد مثل هذا حظا ولا سعيا فيه بحسب القصد ; لأن القصد التابع إذا كان الباعث عليه القصد الأصلي كان فرعا من فروعه ; فله حكمه ، فأما إن لم يرتبط بالقصد الأول ; فإنه سعي في الحظ ، وليس ما نحن فيه هكذا .
وأما شأن الرهبان ومن أشبههم ; فقد يتفق لهم هذه الحالة وإن كانت فاسدة الوضع ; فينقطعون في الصوامع والديارات ، ويتركون الشهوات واللذات ، ويسقطون حظوظهم في التوجه إلى معبودهم ، ويعملون في ذلك غاية ما يمكنهم من وجوه التقرب إليه ، وما يظنون أنه سبب إليه ، ويعاملونه في الخلق وفي أنفسهم حسبما يفعله المحق في الدين حرفا بحرف ، ولا أقول : " إنهم غير مخلصين ، بل هم مخلصون إلى من عبدوا ، ومتوجهون صدقا إلى ما عاملوا ، إلا أن كل ما يعملون مردود عليهم ، لا ينفعهم الله بشيء منه في الآخرة ; لأنهم بنوا على غير أصل : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية [ الغاشية : 2 - 4 ] ، والعياذ بالله " .
[ ص: 335 ] ودونهم في ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملة ، وقد جاء في الخوارج ما علمت من قوله عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة : الحديث ; فأخبر أن لهم عبادة تستعظم وحالا يستحسن ظاهره ، لكنه مبني على غير أصل ، فلذلك قال فيهم : دعه ; فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وأمر عليه الصلاة والسلام بقتلهم ، ويوجد في أهل الأهواء من هذا كثير . يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية
[ ص: 336 ] [ ص: 337 ] وعلى الجملة ; فالإخلاص في الأعمال إنما يصح خلوصه مع اطراح الحظوظ ; لكنه إن كان مبنيا على أصل صحيح كان منجيا عند الله ، وإن كان على أصل فاسد فبالضد ، ويتفق هذا كثيرا في أهل المحبة ; فمن طالع أحوال المحبين رأى اطراح الحظوظ وإخلاص الأعمال لمن أحبوا على أتم الوجوه التي تتهيأ من الإنسان .
فإذا ; قد ظهر أن البناء على المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص ، وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدمه ، ولا أنفيه .