[ ص: 314 ] المسألة الرابعة
ما فيه حظ العبد محضا - من المأذون فيه - يتأتى تخليصه من الحظ ; فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا ; فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به ، فإذا تلقى الإذن بالقبول من حيث كان المأذون فيه هدية من الله للعبد ; صار مجردا من الحظ ، كما أنه إذا لبى الطلب بالامتثال من غير مراعاة لما سواه تجرد عن الحظ ، وإذا تجرد من الحظ ساوى ما لا عوض عليه شرعا من القسم الأول الذي لا حظ فيه للمكلف .
وإذا كان كذلك ; فهل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا به في القصد ؟ هذا مما ينظر فيه ، ويحتمل وجهين من النظر :
[ ص: 315 ] أحدهما : أن يقال : إنه يرجع في الحكم إلى ما ساواه في القصد ; لأن قسم الحظ هنا قد صار عين القسم الأول بالقصد ، وهو القيام بعبادة من العبادات مختصة بالخلق في إصلاح أقواتهم ومعايشهم ، أو صار صاحبه على حظ من منافع الخلق يشبه الخزان على أموال بيوت الأموال والعمال في أموال الخلق ، فكما لا ينبغي لصاحب القسم الأول أن يقبل من أحد هدية ولا عوضا على ما ولي عليه ولا على ما تعبد به ; كذلك هاهنا لا ينبغي له أن يزيد على مقدار حاجته يقتطعه من تحت يده ; كما يقتطع الوالي ما يحتاج إليه من تحت يده بالمعروف ، وما سوى ذلك يبذله من غير عوض ; إما بهدية ، أو صدقة ، أو إرفاق ، أو إعراء ، أو ما أشبه ذلك ، أو يعد نفسه في الأخذ كالغير يأخذ الغير ; لأنه لما صار كالوكيل على غيره والقيم بمصالحه عد نفسه مثل ذلك الغير ; لأنها نفس مطلوب إحياؤها على الجملة .
ومثل هذا محكي التزامه عن كثير من الفضلاء ، بل هو محكي عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ; فإنهم كانوا في الاكتساب ماهرين ودائبين ومتابعين لأنواع الاكتسابات ، لكن لا ليدخروا لأنفسهم ، ولا ليحتجنوا [ ص: 316 ] أموالهم ، بل لينفقوها في سبيل الخيرات ، ومكارم الأخلاق ، وما ندب الشرع إليه ، وما حسنته العوائد الشرعية ; فكانوا في أموالهم كالولاة على بيوت الأموال ، وهم في كل ذلك على درجات حسبما تنصه أخبارهم ; فهذا وجه يقتضي أنهم لما صاروا عاملين لغير حظ ، عاملوا هذه الأعمال معاملة ما لا حظ فيه البتة .
ويدل على أن هذا مراعى على الجملة وإن قلنا بثبوت الحظ ; أن طلب الإنسان لحظه حيث أذن له لا بد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين ، فإن طلب الحاجة إذا كان مقيدا بوجود الشروط الشرعية ، وانتفاء الموانع الشرعية ووجود الأسباب الشرعية على الإطلاق والعموم ، وهذا كله لا حظ فيه للمكلف من حيث هو مطلوب به ; فقد خرج في نفسه عن مقتضى حظه ، ثم إن معاملة الغير في طريق حظ النفس تقتضي ما أمر به من الإحسان إليه في المعاملة ، والمسامحة في المكيال والميزان ، والنصيحة على الإطلاق ، وترك الغش كله ، وترك المغابنة غبنا يتجاوز الحد المشروع ، وأن لا تكون المعاملة عونا له على ما يكره شرعا فيكون طريقا إلى الإثم والعدوان ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تعود على طالب حظه بحظ أصلا ; فقد آل الأمر في طلب الحظ إلى عدم الحظ .
هذا والإنسان بعد في طلب حظه قصدا ; فكيف إذا تجرد عن حظه في أعماله ؟ فكما لا يجوز له أخذ عوض على تحري المشروع في الأعمال ، لا [ ص: 317 ] بالنسبة إلى العبادات ولا إلى العادات ، وهو مجمع عليه ; فكذلك فيما صار بالقصد كذلك .
وأيضا ; فإن فرض هذا القصد لا يتصور مع فرض طلب الحظ ، وإذا كان كذلك ; فهي داخلة في حكم ما لا يتم الواجب إلا به ، فإن ثبت أنه مطلوب بما يقتضي سلب الحظ ، فهو مطلوب بما لا يتم ذلك المطلوب إلا به ، سواء علينا أقلنا : إنه مطلوب به طلبا شرعيا ، أم لا ، فحكمه على الجملة لا يعدو أن يكون حكم ما ليس فيه حظ البتة ، وهذا ظاهر ; فالشارع قد طلب النصيحة مثلا طلبا جازما ، بحيث جعله الشارع عمدة الدين بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ، وتوعد [ ص: 318 ] على تركه في مواضع ، فلو فرضنا توقفها على العوض أو حظ عاجل ; لكانت موقوفة على اختيار الناصح والمنصوح ، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون طلبها جازما . الدين النصيحة
وأيضا الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله ; فكونه معمولا به على عوض لا [ ص: 319 ] يتصور أن يكون إيثارا ; لأن تقديم حظ الغير على حظ النفس ، وذلك لا يكون مع طلب العوض العاجل ، وهكذا سائر المطلوبات العادية والعبادية ، فهذا وجه نظري في المسألة ، يمكن القول بمقتضاه . معنى الإيثار
والوجه الثاني أن يقال : إنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ ، لأن الشارع قد أثبت لهذا العامل حظه في عمله ، وجعله المقدم على غيره ، حتى إنه إن أراد أن يستبد بجميعه كان سائغا ، وكان له أن يدخره لنفسه ، أو يبذله لمصلحة نفسه في الدنيا أو في الآخرة ; فهي هدية الله إليه ، فكيف لا يقبلها ؟ وهو وإن أخذها بالإذن وعلى مقتضى حدود الشرع ، فإنما أخذ ما جعل له فيه حظ ، ومن حيث جعل له ، وبالقصد الذي أبيح له القصد إليه .
وأيضا ; فالحدود الشرعية وإن لم يكن له في العمل بمقتضاها حظ ; فهي وسيلة وطريق إلى حظه ، فكما لم يحكم للمقصد بحكم الوسيلة فيما تقدم قبل هذه المسألة من أخذ الإنسان ما ليس له في العمل به حظ لأنه وسيلة إلى حظه كالمعاوضات ; فكذلك لا يحكم هنا للمأذون فيه من الحظ بحكم ما توسل به إليه .
[ ص: 320 ] وقد وجدنا من السلف الصالح رحمهم الله كثيرا يدخرون الأموال لمصالح أنفسهم ، ويأخذون في التجارة وغيرها بمقدار ما يحتاجون إليه في أنفسهم خاصة ، ثم يرجعون إلى عبادة ربهم حتى إذا نفد ما اكتسبوه عادوا إلى الاكتساب ، ولم يكونوا يتخذون التجارة أو الصناعة عبادة لهم على ذلك الوجه ، بل كانوا يقتصرون على حظوظ أنفسهم ، وإن كانوا إنما يفعلون ذلك من حيث التعفف والقيام بالعبادة ، فذلك لا يخرجهم عن زمرة الطالبين لحظوظهم .
وما ذكر أولا عن السلف الصالح ليس بمتعين فيما تقدم ; لصحة حمله على أن المقصود بذلك التصرف حظوظ أنفسهم من حيث أثبتها الشارع لهم فيعملون في دنياهم على حسب ما يسعهم من الحظوظ ، ويعملون في أخراهم كذلك ، فالجميع مبني على إثبات الحظوظ ، وهو المطلوب ، وإنما الغرض أن تكون الحظوظ مأخوذة من جهة مما حد الشارع من غير تعد يقع في طريقها .
وأيضا ; فإنما حدت الحدود في طريق الحظ أن لا يخل الإنسان بمصلحة غيره فيتعدى ذلك إلى مصلحة نفسه ، فإن الشارع لم يضع تلك الحدود إلا لتجري المصالح على أقوم سبيل بالنسبة إلى كل أحد في نفسه ، ولذلك قال تعالى : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ فصلت : 46 ] ، وذلك عام في أعمال الدنيا والآخرة .
[ ص: 321 ] وقال : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه [ الفتح : 10 ] .
وفي أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذكر الظلم وتحريمه : . يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها
ولا يختص مثل هذ بالآخرة دون الدنيا ، ولذلك كانت المصائب النازلة بالإنسان بسبب ذنوبه ، لقوله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ الشورى : 30 ] .
وقال : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] .
والأدلة على هذا تفوت الحصر ; فالإنسان لا ينفك عن طلبه حظه في هذه الأمور التي هي طريق إلى نيل حظه ، وإذا ثبت هذا تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ العاجلة جملة .
وقد يمكن الجمع بين الطريقين ، وذلك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب :
منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه ; فيعمل العمل أو يكتسب الشيء فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر ، ولا يدخر لنفسه من [ ص: 322 ] ذلك شيئا ; بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من الحظوظ ; إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير عنده من قبيل ما ينسى ، وإما قوة يقين بالله ; لأنه عالم به وبيده ملكوت السماوات والأرض وهو حسبه فلا يخيبه ، أو عدم التفات إلى حظه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه ، أو أنفة من الالتفات إلى حظه مع حق الله تعالى ، أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال ، وفي مثل هؤلاء جاء : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر : 9 ] .
وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين - قال الراوي : أراه ثمانين ومائة ألف ، فدعت بطبق وهى يومئذ صائمة ، فجعلت تقسمه بين الناس ، فأمست وما عندها من ذلك درهم ، فلما أمست قالت : " يا جارية هلمي أفطري " ، فجاءتها بخبز وزيت . فقيل لها أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه ؟ فقالت : لا تعنيني ، لو كنت ذكرتني لفعلت .
وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهى صائمة وليس في بيتها إلا رغيف ; فقالت لمولاة لها : اعطيه إياه . فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه . فقالت : اعطيه إياه . قالت : ففعلت . [ قالت ] : فما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان [ ص: 323 ] - ما [ كان ] يهدي لنا شاة - وكفنها ; فدعتني عائشة ، فقالت : كلي من هذا . هذا خير من قرصك .
وروى عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهي ترقع ثوبها ، وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته ، ثم أفطرت على خبز الشعير ، وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة ، فلا يأخذ إلا من الملك ، لأنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه ، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم ، فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه ، فإذا دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها ، [ ص: 324 ] وهؤلاء هم أرباب الأحوال .
ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم ; إن استغنى استعف ، وإن احتاج أكل بالمعروف ، وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه ; فقد يكون في الحال غنيا عنه ; فينفقه حيث يجب الإنفاق ، ويمسكه حيث يجب الإمساك ، وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار ، وهذا أيضا براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب ; فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره ، وهو لم يفعل ، بل جعل نفسه كآحاد الخلق ، فكأنه قسام في الخلق يعد نفسه واحدا منهم .
وفي الصحيح عن أبي موسى ; قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بالمدينة ، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ; فهم مني وأنا منهم . إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم
[ ص: 325 ] وفي حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هذا ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور ، فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام : ، [ ص: 326 ] بل يحمل على الاستقامة في حالتين . ابدأ بنفسك ثم بمن تعول
فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة ، وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ ; إذ للقصد إليه أثر ظاهر ، وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره ، ولم يفعل هنا ذلك ، بل آثر غيره على نفسه ، أو سوى نفسه مع غيره ، وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء برءاء من الحظوظ ، كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ ، وتجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة ، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسبا لغيره لا له ، ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم ; لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم ; فأين الحظ هنا ؟ بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم ; فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول ، بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء .
ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء ، بل أخذوا ما أذن لهم فيه من حيث الإذن ، وامتنعوا مما منعوا منه ، واقتصروا على الإنفاق في كل ما لهم إليه حاجة ; [ ص: 327 ] فمثل هؤلاء بالاعتبار المتقدم أهل حظوظ ، لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها ، فإن قيل في مثل هذا : إنه تجرد عن الحظ ، فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي ، وهذا هو الحظ المذموم ، إذ لم يقف دون ما حد له ، بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها ، ولا كلام في هذا ، وإنما الكلام في الأول ، وهو لم يتصرف إلا لنفسه ، فلا يجعل في حكم الوالي على المصالح العامة على المسلمين ، بل هو وال على مصلحة نفسه ، وهو من هذا الوجه ليس بوال عام ، والولاية العامة هي المبرأة من الحظوظ ، فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ ; فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين ، وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به ، لكن على نسبة القسمة ونحوها .