[ ص: 268 ] المسألة الحادية عشرة
حيث تكون حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي; [ ص: 269 ] فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة ، وعلى ذلك دلت الأدلة المتقدمة ، ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقا . المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية ،
وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد ، وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية ، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها ، فليس بقاصد لرفعها أيضا .
والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدا لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها; لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبا وتكليفا على قدره قل أو جل ، إما في نفس العمل المكلف به ، وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف ، وإما فيهما معا ، فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب كان ذلك اقتضاء لرفع العمل المكلف به من أصله ، وذلك غير صحيح ، فكان مما يستلزمه غير صحيح .
إلا أن هنا نظرا ، وهو أن فليست المشقة في صلاة ركعتي الفجر ، كالمشقة في ركعتي الصبح ، ولا المشقة في الصلاة كالمشقة في الصيام ، ولا المشقة في الصيام كالمشقة في الحج ، ولا المشقة في ذلك كله كالمشقة في الجهاد ، إلى غير ذلك من أعمال التكليف ، ولكن كل عمل في نفسه له مشقة معتادة فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية فلم تخرج عن المعتاد على الجملة . التعب والمشقة في الأعمال المعتادة مختلفة باختلاف تلك الأعمال;
ثم إن الأعمال المعتادة ليست المشقة فيها تجري على وزان واحد ، في [ ص: 270 ] كل وقت ، وفي كل مكان ، وعلى كل حال; فليس إسباغ الوضوء في السبرات يساوي إسباغه في الزمان الحار ، ولا الوضوء مع حضرة الماء من غير تكلف في استقائه يساويه مع تجشم طلبه أو نزعه من بئر بعيدة ، وكذلك القيام إلى الصلاة من النوم في قصر الليل أو في شدة البرد ، مع فعله على خلاف ذلك .
وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله [ العنكبوت : 10 ] بعد قوله : أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [ العنكبوت : 2 ] إلى آخرها .
وقوله : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ الأحزاب : 10 - 11 ] .
ثم مدح الله من صبر على ذلك وصدق في وعده بقوله : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .
وقصة وصاحبيه - رضي الله عنهم - في تخلفهم عن غزوة [ ص: 271 ] كعب بن مالك تبوك ، ومنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكالمتهم ، وإرجاء أمرهم : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم [ التوبة : 118 ] .
وكذلك ما جاء في نكاح الإماء عند خشية العنت ، ثم قال : وأن تصبروا خير لكم [ النساء : 25 ] .
إلى أشباه ذلك مما يدل على أن المشقة قد تبلغ في الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد ، ولكنه في الحقيقة معتاد ، ومشقته في مثلها مما يعتاد; إذ المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة : طرف أعلى بحيث لو زاد شيئا لخرج عن المعتاد ، وهذا لا يخرجه عن كونه معتادا ، وطرف أدنى بحيث لو نقص شيئا لم يكن ثم مشقة تنسب إلى ذلك العمل ، وواسطة هي الغالب والأكثر ، فإذا كان كذلك فكثير مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات وإذا لم تخرج عن المعتاد; لم يكن للشارع قصد في رفعها كسائر المشقات المعتادة في الأعمال الجارية على العادة ، فلا يكون فيها رخصة ، وقد يكون الموضع مشتبها فيكون محلا للخلاف .
[ ص: 272 ] فحيث قال الله تعالى : انفروا خفافا وثقالا [ التوبة : 41 ] ، ثم قال : إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما [ التوبة : 39 ] ; كان هذا موضع شدة لأنه يقتضي أن لا رخصة أصلا في التخلف ، إلا أنه بمقتضى الأدلة على رفع الحرج محمول على أقصى الثقل في الأعمال المعتادة ، بحيث يتأتى النفير ويمكن الخروج ، وقد كان اجتمع في غزوة تبوك أمران : شدة الحر ، وبعد الشقة ، زائدا على مفارقة الظلال ، واستدرار الفواكه والخيرات ، وذلك كله زائد في مشقة الغزو زيادة ظاهرة ، ولكنه غير مخرج لها عن المعتاد; فلذلك لم يقع في ذلك رخصة; فكذلك أشباهها ، وقد قال تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ محمد : 31 ] .
وقد قال في قوله تعالى : ابن عباس وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، إنما ذلك سعة الإسلام ما جعل الله من التوبة والكفارات .
وقال عكرمة : ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع .
وعن أنه جاء في ناس من قومه إلى عبيد بن عمير ; ، فسأله عن الحرج; فقال : أولستم العرب ؟ فسألوه ثلاثا ، كل ذلك يقول : أولستم العرب ؟ ثم قال : ادع لي رجلا من ابن عباس هذيل; فقال له : ما الحرج فيكم ؟ قال الحرجة من الشجر ما ليس له مخرج . قال : ذلك الحرج ما لا مخرج له . ابن عباس
[ ص: 273 ] فانظر كيف جعل الحرج ما لا مخرج له ، وفسر رفعه بشرع التوبة والكفارات ، وأصل الحرج الضيق ، فما كان من معتادات المشقات في الأعمال المعتاد مثلها; فليس بحرج لغة ولا شرعا ، كيف وهذا النوع من الحرج وضع لحكمة شرعية ، وهي التمحيص والاختبار حتى يظهر في الشاهد ما علمه الله في الغائب; فقد تبين إذا ما هو من الحرج مقصود الرفع ، وما ليس بمقصود الرفع ، والحمد لله .