الفصل الثالث : في صفة القتال ، وفيه سبعة أبحاث ، البحث الأول : لقوله تعالى : ( الدعوة قبل القتال بلغ ما أنزل إليك من ربك ) [ المائدة 67 ] ، وفي ( الكتاب ) : لا نقاتل ولا نبيت قبل الدعوة إلى الله تعالى ، قال ابن القاسم : وكذلك إذا أتوا إلى بلادنا ، قال مالك : ومن قربت داره فلا يدع ولتطلب غرته ، ومن بعد ذلك فالدعوة قطع للشك ، قال : يجوز ابتغاء غرة العدو ليلا ونهارا ; لبلوغ دعوة الإسلام أقطار الأرض إلا من ترجى إجابته من أهل الحصون فيدعى ، قال يحيى بن سعيد مالك : وأما القبط فلا بد من دعوتهم بخلاف الروم ، واختلف في العلة فقيل : لبعد فهمهم ، وقيل : لشرفهم وبسبب مارية وهاجر ؛ لقوله عليه السلام : ( استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم نسبا وصهرا ) قال المازري : ضابط المذهب أن من لا يعلم ما يقاتل عليه وما يدعى إليه ، يدعى ، ومن علم ففيه أقوال : الدعوة على الإطلاق ، وهذا أحد قوليه في ( الكتاب ) [ ص: 403 ] وإسقاطها مطلقا ، رواه عنه ، والتفرقة بين من يعلم وبين من لا يعلم ، وهو أحد قوليه في ( الكتاب ) ، والرابع يدعو الجيش الكثير ؛ لأمنه الغائلة دون غيره ، وهو عندي ظاهر كلامه ، وأما إن عاجلنا العدو فلا يدعى ، ولو أمكنت الدعوة وعلمنا أن العدو لا يعلم أيقاتل على الملك أو الدين ؟ دعي ، ولا يحسن الخلاف في هذا القسم ، قال ابن سحنون اللخمي : لا خلاف في وجوب ، ومن بلغه فأربعة أقسام : واجبة من الجيش العظيم إذا غلب على الظن الإجابة إلى الجزية ; لأنهم قد لا يعلمون قبول ذلك منهم ، ومستحب إذا كانوا عالمين ولا يغلب على الظن إجابتهم ، ومباحة إذا لم يرج قبولهم ، وممنوعة إن خشي أحدهم لحذرهم بسببها . الدعوة قبل القتال لمن لم يبلغه أمر الإسلام
واختلف في فكرهه التبييت مالك ، وأجازه محمد لقضية كعب بن الأشرف ، وهو ثلاثة أقسام : من وجبت دعوته لا يجوز تبييته ، ومن تستحب دعوته يكره تبييته ، ومن أبيحت أبيح إلا أن يخشى اختلاط المسلمين بالليل وإذا توجه القتال لا يعملون بالحرب بل المكر والخديعة ، ومعتمد هذه الأقوال : اختلاف الآثار وظاهر القرآن ففي مسلم عن ابن عون : أنه كتب إلى نافع يسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إليه : إنما كان ذلك أول الإسلام قد أغار عليه السلام على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسعى على الماء ، فقتل مقاتليهم وسبى سبيهم . وفيه : كان عليه السلام يغير إذا طلع الفجر ، وكان إذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار . قال أبو الطاهر : في وجوب الدعوة روايات . ثالثها : وجوبها لمن [ ص: 404 ] بعدت عليه داره ، وخيف من عدم علمه بالمقصود ، ورابعها : الجيوش الكبار . واختلف المتأخرون فيها على ثلاث طرق : أحدها المذهب كله على قول واحد ، وتنزيلها على الأحوال ، وثانيها تبقيتها على حالها ، وثالثها أن المذهب على ثلاث روايات الوجوب ، والسقوط ، والتفرقة بين قريب الدار وغيرها .
وفي ( الجواهر ) : أن يعرض عليهم الإسلام ، فإن أجابوا كف عنهم ، وإلا عوضت لهم الجزية فإن أبوا قوتلوا ، وإن أجابوا طولبوا بالانتقال إلى حيث ينالهم سلطاننا ، فإن أجابوا كف عنهم ، وإن أبوا قوتلوا ، قال صفة الدعوة المازري : وحيث قلنا بالدعوة فقتلوا قبلها واستبيح مالهم فلا دية ولا كفارة ، وقتالهم كقتل المرتد قبل الاستتابة والنساء والصبيان ، وقال ( ش ) : تجب الدية كالذمي والمعاهد ، وجوابه : الفرق بالعهد المانع ، وهاهنا لا عهد ، والدعوة مختلف فيها ، وقال بعض البغداديين : لو أن المقتول تمسك بكتابه وآمن بنبينا ونبيه على جنب ما اقتضاه كتابه ففيه دية مسلم .
البحث الثاني : في ( الكتاب ) : لا بأس ; لأنه لو ترك لأضر بالمسلمين ، واستدل بالجهاد مع ولاة الجور على ذلك بقوله عليه السلام : ( البخاري ) ولأنا إن استطعنا إزالة منكرهم أطعنا طاعتين بالجهاد وإزالة المنكرين ، وإلا سقط عنا وجوب الإنكار فنطيع بالجهاد ، قال الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة اللخمي : وروي عن مالك لا يجب الخروج معهم ; لئلا يعينهم على ما يقصدونه من الدماء ، قال اللخمي : لا أرى أن يغزوا معهم إذا لم يوفوا بالعهد ، وهو أشد من تعديهم في الخمس وبشرب الخمور وأنواع الفسوق ، وإنما تكلم مالك في وقت أكثر مجاهديه أهل الخير بتأخرهم يضعف الناس .
البحث الثالث في ( الكتاب ) : لا بأس بإخراج الأهل إلى السواحل ، ولا [ ص: 405 ] يدرب بهن إلى أرض الحرب ولا العسكر العظيم ؛ لما في : ( البخاري ) قال كنا نخرج معه عليه السلام فنسقي القوم ونخدمهم ونسقي الجرحى ونداوي الكلمى اللخمي : وفي مسلم : ( نهيه عليه السلام عن مخافة أن تناله يد العدو ) وقاله السفر بالقرآن إلى أرض العدو مالك والأئمة فيكره ذلك ، وإن كان الجيش عظيما خوف سقوطه أو نسيانه ، وإن لم يكن مستظهر الحرام ، وقال ( ح ) : يجوز في الجيوش العظيمة ، قال صاحب ( الإكمال ) : ولم يفرق مالك بين الحالين ، وحكي ذلك عن وقدماء أصحابه ، وأجاز الفقهاء سحنون ; لأنه كتب إليهم : ( الكتابة إليهم بالآية ونحوها دعوة إلى الإسلام قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) [ آل عمران 64 ] الآية ، واختلف في تعليمهم شيئا منه فمنعه مالك صونا عن الاستخفاف ، وأجازه ( ح ) لتوقع الإرشاد ، وعند ( ش ) قولان ، وإن طلبوا مصحفا لينظروا فيه لم يمكنوا فقد كره مالك وغيره معاملتهم بالدنانير عليها اسم الله تعالى ، ولم تحدث سكة الإسلام إلا في زمن ، ويروى في زمن عبد الملك بن مروان عمر رضي الله عنه .
البحث الرابع : والأصل فيه الأحرار المسلمون البالغون ، ويجوز بالعبيد بإذن السادة ، وبالمراهقين الأقوياء ، ولا يجوز بالمشركين خلافا ل ( ح ) لنا : ما في فيمن يستعان به مسلم : ( بدر ، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جولة ونجدة ، ففرح أصحابه عليه السلام حين رأوه ، فلما أدركه قال الرجل له عليه السلام : جئت لأتبعك وأصيب معك ، فقال له عليه السلام : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا ، قال : فارجع فلن أستعين بمشرك ، ثم مضى حتى أدركنا بالشجرة ، أدركه الرجل ، وقال له كما قال أول مرة ، فقال له [ ص: 406 ] صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال : لا فقال : فارجع فلن ، ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : نعم فقال له عليه السلام : فانطلق نستعين بمشرك ) فقال خرج عليه السلام قبل ابن حبيب : هذا في الصف والزحف ، أما في الهدم والمنجنيق ونحوه فلا بأس ، وقال أيضا : لا بأس أن يقوم بمن سالمه على من حاربه ; لأنه عليه السلام استعان بأهل الكتاب على عبدة الأوثان ، والجواب عن الحدث السابق : أنه عليه السلام تفرس فيه الإسلام إذ منعه .