[ ص: 7 ] بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الفرائض والمواريث
وقد سميته كتاب الرائض في الفرائض ، فمن أراد أن يفرده أفرده فإنه حسن في نفسه ، ينتفع به في المواريث نفعا جليلا إن شاء الله تعالى .
والفرائض جمع فريضة ، مشتقة من الفرض الذي جمعه فروض ، والفرض لغة التقدير من الفرضة التي تقع في الخشبة وهي مقدرة ، والمواريث جمع ميراث مشتق من الإرث ، قال صاحب كتاب الزينة : وهي لغة الأصل والبقية ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349971اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام " أي على أصله وبقية شرف منه ، قال الشاعر :
عفا غير إرث من رماد كأنه حمام بألباد القطار جثوم
أي بقية من رماد بقي من آثار الديار ، والميراث أخذ من ذلك ; لأنه بقية من سلف على خلف ، وقيل لمن يحويه وارث ، والعلماء ورثة الأنبياء لأن العلم بقية الأنبياء ، والله سبحانه وارث لبقائه بعد خلقه حائزا لما كان في أيديهم
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم فلا يتخيل أن الإرث هو انتقال المال عن القرابة ونحوها فتكون هذه المواضع مجازات لغوية ، بل حقائق لغوية لاشتراكها كلها في
[ ص: 8 ] البقية والأصل ، نعم انتقل اللفظ في العرف لانتقال المال والحقوق المخصوصة عن القرابة ونحوها ، فتكون هذه المواضع في حق الله تعالى ووراثة العلماء الأنبياء مجازات عرفية لا لغوية ، وقيل : سمت
اليهود التوراة إرثا ; لأنهم ورثوه عن
موسى - عليه السلام - .
وهذا العلم من أجل العلوم وأنفسها ، قال عليه - الصلاة والسلام - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349972تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في فريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " ، وقال - عليه السلام - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349973تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها نصف العلم ، وأجمعت الأمة على أنه من فروض الكفاية واستوفت الصحابة - رضوان الله عليهم - النظر فيه وكثرت مناظراتهم وأجوبتهم وفروعهم فيه أكثر من غيره ، فمن استكثر منه فقد اهتدى بهديهم - رضي الله عنهم - وقال
عمر - رضي الله عنه - : " إذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض ، وإذا لهوتم فالهوا بالرمي " .
سؤالان : جعل - عليه السلام - هذا العلم نصف العلم ، وعنه - عليه السلام - حسن السؤال نصف العلم وبقيت أمور كثيرة من العلم ، والشيء لا يكون له أكثر من نصفين ، وثانيهما مسائله قليلة بالنسبة إلى الفقه فضلا عن العلم ، فكيف يجعل أقل الشيء نصفه .
والجواب عن الأول : أن المراد المبالغة حتى كأنه لجلالته نصف كل ما يتعلم ، قال عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349974التودد نصف العقل والهم نصف الهرم والتدبير نصف العيش ، مع حقارة هذه الأمور بالنسبة لما معها فيما نسبت إليه ، وإنما المراد المبالغة في الثناء على عظيم جدواها ومصلحتها ، وقد ورد هذا السؤال على بعض الفرضيين ، وكان قليل البضاعة في التصرف ، فسكت ساعة ، وقال : الجواب أن العلم دخله العول فعال بمثله مرات كثيرة فلم يجد إلا ما هو متكيف به من اصطلاحات الفرضيين .
[ ص: 9 ] والجواب عن الثاني : أن أحوال الإنسان قسمان : قبل الوفاة ، وبعد الممات وهذا العلم خاص بما بعد الممات فجعل نصفا ، وهو يدل على نفاسته ، فإن الشيء إذا قل حجمه وكثر نفعه ساوى الكثير الحجم القليل النفع بالنسبة إليه كالجوهر بالنسبة إلى الحديد وسائر المعادن .
سؤال : علم الوصايا متعلق بما بعد الموت ، و [ كذلك ] أحكام الكفن والغسل والصلاة على الميت ، فلا يكون علم الفرائض وحده المختص بما بعد الموت ، بل بعض النصف .
جوابه التزم جماعة أن الوصايا وما معها إنما توضع في كتاب الفرائض وأنها من جملتها ، فاندفع السؤال ، أو أن الوصايا ليست بلازمة لكل ميت متمول فقد لا يوصي بخلاف الإرث ، أو لأن أحكام الوصية في مشروعيتها والرجوع عنها وغير ذلك إنما يكون في الحياة وبعد الموت التنفيذ ، وأسبابها وجل أحكامها في الحياة ، والغسل وما معه إنما يجب على الأحياء فهي من حالة الحياة ، أو يلزم ذكرها في علم الفرائض ، أو المراد انقسام حال المال لنصفين ، وهذه أحكام بدنية لا مالية ، وفي هذا الكتاب قسمان .
[ ص: 7 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ الْفَرَائِضِ وَالْمَوَارِيثِ
وَقَدْ سَمَّيْتُهُ كِتَابَ الرَّائِضِ فِي الْفَرَائِضِ ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْرِدَهُ أَفْرَدَهُ فَإِنَّهُ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ ، يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمَوَارِيثِ نَفْعًا جَلِيلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْفَرَائِضُ جَمْعُ فَرِيضَةٍ ، مُشْتَقَّةٍ مِنَ الْفَرْضِ الَّذِي جَمْعُهُ فُرُوضٌ ، وَالْفَرْضُ لُغَةً التَّقْدِيرُ مِنَ الْفُرْضَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْخَشَبَةِ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ ، وَالْمَوَارِيثُ جَمْعُ مِيرَاثٍ مُشْتَقٍّ مِنَ الْإِرْثِ ، قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ الزِّينَةِ : وَهِيَ لُغَةً الْأَصْلُ وَالْبَقِيَّةُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349971اثْبُتُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَيْ عَلَى أَصْلِهِ وَبَقِيَّةِ شَرَفٍ مِنْهُ ، قَالَ الشَّاعِرُ :
عَفَا غَيْرَ إِرْثٍ مِنْ رَمَادٍ كَأَنَّهُ حَمَامٌ بِأَلْبَادِ الْقِطَارِ جَثُومُ
أَيْ بَقِيَّةٍ مِنْ رَمَادٍ بَقِيَ مِنْ آثَارِ الدِّيَارِ ، وَالْمِيرَاثُ أُخِذَ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ بَقِيَّةٌ مِنْ سَلَفٍ عَلَى خَلَفٍ ، وَقِيلَ لِمَنْ يَحْوِيهِ وَارِثٌ ، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بَقِيَّةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَارِثٌ لِبَقَائِهِ بَعْدَ خَلْقِهِ حَائِزًا لِمَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ فَلَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ الْإِرْثَ هُوَ انْتِقَالُ الْمَالِ عَنِ الْقَرَابَةِ وَنَحْوِهَا فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ مَجَازَاتٍ لُغَوِيَّةً ، بَلْ حَقَائِقُ لُغَوِيَّةٌ لِاشْتِرَاكِهَا كُلِّهَا فِي
[ ص: 8 ] الْبَقِيَّةِ وَالْأَصْلِ ، نَعَمْ انْتَقَلَ اللَّفْظُ فِي الْعُرْفِ لِانْتِقَالِ الْمَالِ وَالْحُقُوقِ الْمَخْصُوصَةِ عَنِ الْقَرَابَةِ وَنَحْوِهَا ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَوِرَاثَةِ الْعُلَمَاءِ الْأَنْبِيَاءَ مَجَازَاتٍ عُرْفِيَّةً لَا لُغَوِيَّةً ، وَقِيلَ : سَمَّتِ
الْيَهُودُ التَّوْرَاةَ إِرْثًا ; لِأَنَّهُمْ وَرِثُوهُ عَنْ
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - .
وَهَذَا الْعِلْمُ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ وَأَنْفَسِهَا ، قَالَ عَلَيْهِ - الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349972تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الِاثْنَانِ فِي فَرِيضَةٍ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا " ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349973تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّهَا نِصْفُ الْعِلْمِ ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَاسْتَوْفَتِ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - النَّظَرَ فِيهِ وَكَثُرَتْ مُنَاظَرَاتُهُمْ وَأَجْوِبَتُهُمْ وَفُرُوعُهُمْ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ، فَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ فَقَدِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ
عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " إِذَا تَحَدَّثْتُمْ فَتَحَدَّثُوا بِالْفَرَائِضِ ، وَإِذَا لَهَوْتُمْ فَالْهَوْا بِالرَّمْيِ " .
سُؤَالَانِ : جَعَلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَذَا الْعِلْمَ نِصْفَ الْعِلْمِ ، وَعَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ وَبَقِيَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعِلْمِ ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفَيْنِ ، وَثَانِيهِمَا مَسَائِلُهُ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِقْهِ فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَقَلُّ الشَّيْءِ نِصْفَهُ .
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ حَتَّى كَأَنَّهُ لِجَلَالَتِهِ نِصْفُ كُلِّ مَا يُتَعَلَّمُ ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349974التَّوَدُّدُ نِصْفُ الْعَقْلِ وَالْهَمُّ نِصْفُ الْهَرَمِ وَالتَّدْبِيرُ نِصْفُ الْعَيْشِ ، مَعَ حَقَارَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا مَعَهَا فِيمَا نُسِبَتْ إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى عَظِيمِ جَدْوَاهَا وَمَصْلَحَتِهَا ، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا السُّؤَالُ عَلَى بَعْضِ الْفَرْضِيِّينَ ، وَكَانَ قَلِيلَ الْبِضَاعَةِ فِي التَّصَرُّفِ ، فَسَكَتَ سَاعَةً ، وَقَالَ : الْجَوَابُ أَنَّ الْعِلْمَ دَخَلَهُ الْعَوْلُ فَعَالَ بِمِثْلِهِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً فَلَمْ يَجِدْ إِلَّا مَا هُوَ مُتَكَيِّفٌ بِهِ مِنِ اصْطِلَاحَاتِ الْفَرْضِيِّينَ .
[ ص: 9 ] وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي : أَنَّ أَحْوَالَ الْإِنْسَانِ قِسْمَانِ : قَبْلَ الْوَفَاةِ ، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ وَهَذَا الْعِلْمُ خَاصٌّ بِمَا بَعْدَ الْمَمَاتِ فَجُعِلَ نِصْفًا ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى نَفَاسَتِهِ ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إِذَا قَلَّ حَجْمُهُ وَكَثُرَ نَفْعُهُ سَاوَى الْكَثِيرَ الْحَجْمِ الْقَلِيلَ النَّفْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالْجَوْهَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَدِيدِ وَسَائِرِ الْمَعَادِنِ .
سُؤَالٌ : عِلْمُ الْوَصَايَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَ [ كَذَلِكَ ] أَحْكَامُ الْكَفَنِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ ، فَلَا يَكُونُ عِلْمُ الْفَرَائِضِ وَحْدَهُ الْمُخْتَصَّ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، بَلْ بَعْضُ النِّصْفِ .
جَوَابُهُ الْتَزَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْوَصَايَا وَمَا مَعَهَا إِنَّمَا تُوضَعُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ وَأَنَّهَا مِنْ جُمْلَتِهَا ، فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ ، أَوْ أَنَّ الْوَصَايَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ لِكُلِّ مَيِّتٍ مُتَمَوِّلٍ فَقَدْ لَا يُوصِي بِخِلَافِ الْإِرْثِ ، أَوْ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْوَصِيَّةِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ التَّنْفِيذُ ، وَأَسْبَابُهَا وَجُلُّ أَحْكَامِهَا فِي الْحَيَاةِ ، وَالْغُسْلُ وَمَا مَعَهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْأَحْيَاءِ فَهِيَ مِنْ حَالَةِ الْحَيَاةِ ، أَوْ يَلْزَمُ ذِكْرُهَا فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ ، أَوِ الْمُرَادُ انْقِسَامُ حَالِ الْمَالِ لِنِصْفَيْنِ ، وَهَذِهِ أَحْكَامٌ بَدَنِيَّةٌ لَا مَالِيَّةٌ ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ قِسْمَانِ .