الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                                        نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

                                                                                                        الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 388 ] باب نكاح الرقيق ( لا يجوز نكاح العبد والأمة إلا بإذن مولاهما ) وقال مالك رحمه الله : يجوز للعبد ; لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " { أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر }" ولأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه بدون إذن مولاهما ( وكذلك المكاتب ) ; لأن الكتابة أوجبت فك الحجر في حق الكسب فبقي في حق النكاح على حكم الرق ولهذا لا يملك المكاتب تزويج عبده ، ويملك تزويج أمته ; لأنه من باب الاكتساب وكذا المكاتبة لا تملك تزويج نفسها بدون إذن المولى وتملك تزويج أمتها لما بينا ( و ) كذا ( المدبر وأم الولد ) ; لأن الملك فيهما قائم .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        باب نكاح الرقيق

                                                                                                        الحديث الأول : قال عليه السلام : " { أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر }" ; قلت : روي من حديث جابر ; ومن حديث ابن عمر .

                                                                                                        أما حديث جابر : فأخرجه الترمذي عن ابن جريج عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر }" انتهى .

                                                                                                        وقال : حديث حسن صحيح ; ورواه الحاكم في " المستدرك " ; وقال : حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، انتهى .

                                                                                                        وأخرجه الترمذي أيضا عن زهير بن محمد عن ابن عقيل عن جابر به ، وقال : حديث حسن انتهى . هكذا وجدته في عدة نسخ ، وشيخنا أبو الحجاج المزي لم ينقل عنه في " أطرافه " إلا التحسين فقط ، تابعا [ ص: 389 ] لابن عساكر في " أطرافه " ، وكذلك المنذري في " مختصره " مقلدا " للأطراف " ، كما هو عادته ، فاعلم ذلك ; قال الترمذي : وقد روي هذا الحديث عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن عمر ، ولا يصح ، إنما هو من رواية عبد الله عن جابر انتهى .

                                                                                                        وأما حديث ابن عمر : فله طريقان : أحدهما : عند أبي داود عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إذا نكح العبد بغير إذن مولاه فنكاحه باطل }" انتهى .

                                                                                                        قال أبو داود : هذا حديث ضعيف ، وهو موقوف من قول ابن عمر انتهى .

                                                                                                        الطريق الآخر : رواه ابن ماجه في " سننه " حدثنا أزهر بن مروان عن عبد الوارث بن سعيد عن القاسم بن عبد الواحد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن عمر مرفوعا : { إذا تزوج العبد بغير إذن سيده كان عاهرا }انتهى .

                                                                                                        وهذه الطرق التي أشار إليها الترمذي [ ص: 390 ] في " كتابه " ; وقال الترمذي في " علله الكبرى " : سألت محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، فقال : رأيت أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، والحميدي يحتجون بحديثه ، وهو مقارب الحديث انتهى .

                                                                                                        وقال الدارقطني في " علله " : هذا حديث رواه ابن جريج عن موسى بن عقبة ، واختلف عن ابن جريج ، فرواه مندل بن علي ، ويحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر [ ص: 391 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم ووهما في رفعه ، والصواب ما رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر موقوفا ; ورواه أبو عاصم ، وحجاج ، وعبد الرزاق عن ابن جريج به موقوفا ، وهو الصواب انتهى .

                                                                                                        وروى عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أخذ عبدا له تزوج بغير إذنه ، ففرق بينهما ، وأبطل صداقه ، وضربه حدا انتهى .

                                                                                                        بالحديث الثاني : قال عليه السلام لبريرة ، حين عتقت : ملكت بضعك فاختاري ; [ ص: 392 ] قلت : أخرجه الدارقطني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة : اذهبي ، فقد عتق معك بضعك انتهى .

                                                                                                        وروى ابن سعد في " الطبقات " أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن داود بن أبي هند عن عامر الشعبي { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة لما أعتقت : قد عتق بضعك معك ، فاختاري ، }انتهى .

                                                                                                        وهذا مرسل ; وروى البخاري ، ومسلم عن القاسم عن عائشة ، قالت : { كان في بريرة ثلاث سنن : أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا ولاءها ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اشتريها وأعتقيها ، فإن الولاء لمن أعتق ، وعتقت ، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها ، فاختارت نفسها ، وكان الناس يتصدقون عليها ، وتهدي لنا ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : هو عليها صدقة ، ولنا هدية }انتهى . رواه البخاري في " النكاح والطلاق " ، ومسلم في " العتق " ; ورواه الباقون كذلك في [ ص: 393 ] الطلاق " خلا الترمذي فإنه أخرجه في " الرضاع " عن الأسود عن عائشة ، واختلفت الروايات في زوج بريرة ، هل كان حرا أو عبدا حين خيرت ؟ فإن أصحابنا لا يفرقون بين الحر والعبد في ثبوت الخيار لها ، والشافعي يقول : لها الخيار في العبد ، دون الحر ، والله أعلم .

                                                                                                        الأحاديث في أنه كان حرا : روى الجماعة إلا مسلما من حديث إبراهيم عن الأسود عن { عائشة ، قالت : يا رسول الله إني اشتريت بريرة لأعتقها ، وإن أهلها يشترطون ولاءها ، فقال : أعتقيها ، فإنما الولاء لمن أعتق ، قال : فاشترتها فأعتقتها ، قالت : وخيرت ، فاختارت نفسها ، وقالت : لو أعطيت كذا وكذا ما كنت معه ، قال الأسود : وكان زوجها حرا }انتهى بلفظ البخاري . ثم قال : وقول الأسود منقطع ، وقول ابن عباس : رأيته عبدا أصح انتهى .

                                                                                                        هكذا أخرجه في " كتاب الفرائض " عن منصور عن إبراهيم به ، وأخرجه أيضا عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم به ; وفي آخره : قال الحكم : وكان [ ص: 394 ] زوجها حرا ، قال البخاري : وقول الحكم مرسل ، انتهي .

                                                                                                        ولفظ أبي داود : { إن زوج بريرة كان حرا حين أعتقت ، وأنها خيرت ، فقالت : ما أحب أن أكون معه ، وإن لي كذا وكذا }انتهى .

                                                                                                        أخرجه في " الطلاق " عن منصور عن إبراهيم به ; ولفظ الترمذي : قالت : { كان زوج بريرة حرا ، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم }انتهى . أخرجه في " الرضاع " عن الأعمش عن إبراهيم به ، وكذلك أخرجه ابن ماجه في " الطلاق { أنها أعتقت بريرة ، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لها زوج حر }انتهى .

                                                                                                        وأخرجه النسائي أيضا في " الطلاق " عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم به ، ورواه في " كتاب الكنى " من حديث أبي معشر عن إبراهيم النخعي عن علقمة ، والأسود أنهما سألا عائشة عن زوج بريرة ، فقالت : كان حرا يوم أعتقت ، انتهى .

                                                                                                        طريق آخر : أخرجه مسلم عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم سمعت القاسم يحدث { عن عائشة أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق ، فاشترطوا ولاءها ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اشتريها وأعتقيها ، فإن الولاء لمن أعتق ، وأهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم ، فقيل له : هذا تصدق به على بريرة ; فقال : هو لها صدقة ، ولنا هدية ، وخيرت }قال عبد الرحمن : وكان زوجها حرا ، قال شعبة : ثم سألته عن زوجها ، فقال : لا أدري ، [ ص: 395 ] انتهى .

                                                                                                        وفي البخاري في " الهبة " ، فقال عبد الرحمن : زوجها حر ، قال شعبة ثم سألته عن زوجها ، فقال : لا أدري ، أحر أم عبد ؟ ، مختصر .

                                                                                                        الأحاديث في أنه كان عبدا : أخرج الجماعة إلا مسلما عن عكرمة عن ابن عباس { أن زوج بريرة كان عبدا أسود يقال له : مغيث ، كأني أنظر إليه يطوف خلفها [ ص: 396 ] يبكي ودموعه تسيل على لحيته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس : يا عباس ، ألا تعجب من شدة حب مغيث بريرة ، ومن شدة بغض بريرة مغيثا ؟ فقال لها عليه السلام : لو راجعتيه ؟ قالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتأمرني به ؟ فقال عليه السلام : إنما أنا شافع ، قالت : لا حاجة لي فيه }انتهى .

                                                                                                        أخرجه البخاري في " الخلع " ، وأخرجه الترمذي في " الرضاع " عن أيوب ، وقتادة عن عكرمة به ; وأخرجه أبو داود في " الطلاق " عن قتادة به ; وأخرجه ابن ماجه في " الطلاق " عن خالد الحذاء عن عكرمة به ; وأخرجه النسائي في " القضاء " عن خالد الحذاء به ; وزاد فيه الدارقطني : وأمرها أن تعتد عدة الحرة ، هكذا عزاه عبد الحق في " أحكامه " للدارقطني ، ولم أجده ، فليراجع ، لكنه في ابن ماجه من حديث عائشة ، وأمرها أن تعتد بثلاث حيض .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه مسلم ، وأبو داود عن هشام بن عروة عن عروة { عن عائشة ، محيلا على ما قبله في قصة بريرة ، وزاد : قال : وكان زوجها عبدا ، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها ، ولو كان حرا لم يخيرها }انتهى .

                                                                                                        وهذا الأخير من كلام عروة قطعا ، لوجهين : أحدهما : أن قال : فاعله مذكور ; الثاني : أن النسائي رواه مصرحا به ، ولفظه : قال عروة : ولو كان حرا ما خيرها ، وكذلك رواه ابن حبان في " صحيحه " في النوع التاسع ، من القسم الخامس ، بلفظ النسائي ، وأخرجه أبو داود أيضا بهذا [ ص: 397 ] الإسناد ، وزاد في آخره ، وقال لها عليه السلام : إن قربك فلا خيار لك انتهى .

                                                                                                        طريق آخر : أخرجه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي عن سماك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة { أن بريرة خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكان زوجها عبدا }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه البيهقي عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد أن زوج بريرة كان عبدا ، وقال : إسناده صحيح ، قال الطحاوي ، وإذا اختلفت الآثار وجب التوفيق فيها ، فنقول : إنا وجدنا الحرية تعقب الرق ، ولا ينعكس ، فيحمل على أنه كان حرا عندما خيرت ، عبدا قبله ، ولو ثبت أنه عبد ، فلا ينفي الخيار لها تحت الحر ، إذ لم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما خيرها ، لكونه عبدا ، قال : ومن جهة النظر أيضا ، فقد رأينا الأمة في حال رقها لمولاها ، أن يعقد النكاح عليها للحر والعبد ، ورأيناها بعدما يعتق ليس له أن يستأنف عليها عقد نكاح ، لا لحر ولا لعبد ، فاستوى حكم ما إلى المولى في العبيد ، والأحرار ، وما ليس إليه فيهما ، ورأيناها إذا أعتقت بعد عقد المولى عليها نكاح العبد ، يكون لها الخيار ، فجعلناه كذلك في جانب الحر قياسا ونظرا ، ثم أسند عن طاوس أنه قال : للأمة الخيار إذا أعتقت ، وإن كانت تحت قرشي ، وفي لفظ : قال لها : الخيار في الحر والعبد ، [ ص: 398 ] قال : وأخبرني الحسن بن مسلم مثل ذلك انتهى كلامه . قلت : أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن طاوس كذلك باللفظين المذكورين ; وأخرج عن ابن سيرين ، قال : تخير ، حرا كان زوجها أو عبدا ، وأخرج نحوه عن الشعبي ، وأخرج عن مجاهد ، قال : تخير ، ولو كانت تحت أمير المؤمنين انتهى




                                                                                                        الخدمات العلمية