الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
28 [ ص: 112 ] حديث أول لعبد الله بن يزيد

مالك ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا كان الحر فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم ، وذكر أن النار اشتكت إلى ربها ، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف .

التالي السابق


وقد مضى القول في معنى هذا الحديث في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، والذي عليه الجماعة أهل السنة : أن الجنة والنار مخلوقتان بعد ، إحداهما رحمة الله لمن شاء من خلقه ، والأخرى عذابه ونقمته لمن شاء أن يعذبه من خلقه .

أخبرنا أحمد بن سعيد بن بشر قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : سألت يحيى بن معين عن الجنة والنار فقال : مخلوقتان لا تبيدان .

[ ص: 113 ] قال أبو عمر :

الدلائل من الآثار كثيرة على أن الجنة مخلوقة بعد ، والنار مخلوقة بعد ; فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال له : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة . وقال الله عز وجل في آل فرعون ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ) الآية ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ، واطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة .

وقوله : اشتكت النار إلى ربها ، هذا الحديث أبين شيء في أنها قد خلقت ، وأنها باقية شتاء وصيفا .

أخبرنا خلف بن القاسم قال : أخبرنا أبو قتيبة قال : حدثنا إبراهيم بن هاشم قال : حدثنا أبو نصر التمار قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما خلق الله الجنة قال : يا جبريل اذهب فانظر إليها ، قال : فذهب فنظر إليها فقال : يا رب وعزتك لا يسمع بهذه أحد إلا دخلها ، ثم حفها بالمكاره ، ثم قال له : اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال : يا رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ; فلما خلق النار قال : [ ص: 114 ] يا جبريل اذهب فانظر إليها ، فنظر إليها فقال : يا رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها ، فحفها بالشهوات وقال : اذهب فانظر إليها . فنظر إليها فقال : يا رب لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا يدخلها .

وقرأت على خلف بن القاسم أن الحسين بن جعفر حدثهم قال : حدثنا يوسف بن يزيد قال : حدثنا الحجاج بن إبراهيم الأزرق قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله عز وجل دعا جبريل فأرسله إلى الجنة فقال : انظر إليها ، وانظر إلى ما أعددت لأهلها ، فرجع فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، فحفت بالمكاره فقال : ارجع فانظر إليها . فرجع وقال : وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد ، ثم أرسله إلى النار فقال : اذهب إلى النار فانظر ما أعددت لأهلها فيها ، فرجع فقال : وعزتك لا يدخلها أحد يسمع بها ، فحفت بالشهوات ، ثم قال : عد إليها فانظر ، فرجع فقال : وعزتك لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا دخلها .

وأخبرنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أبو قتيبة سلم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال : حدثنا محمود بن غيلان قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لله ملائكة فضلاء سيارة ، يلتمسون مجالس الذكر ، فإذا مروا بقوم يذكرون الله ، يحفون بهم بأجنحتهم ، فإذا انصرفوا عرجت الملائكة إلى السماء ، فيقول لهم ربنا تبارك [ ص: 115 ] وتعالى ، وهو أعلم : من أين جئتم ؟ فيقولون من عند عبادك ، يسبحونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ويستجيرونك . فيقول ، وهو أعلم : وما يسألون ؟ فيقولون : يسألونك الجنة ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا . فيقول : كيف لو رأوها ؟ ويقول : مم يستجيرون - وهو أعلم - فيقولون : من النار . فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا . فيقول : كيف لو رأوها ؟ ثم يقول : فإني أشهدكم أني قد أعطيتهم ما سألوا ، وأجرتهم مما استجاروا . فيقولون : أي رب ، فيهم عبدك الخطاء ليس منهم ، إنما مر بهم فجلس إليهم ، فيقول : وفلان قد غفرت له ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم .

وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء .

وروى الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ; إلا أنه قال في آخره : هم الجلساء لا يشقى ( بهم ) جليسهم ، والآثار في خلق الجنة والنار كثيرة جدا صحاح ثابتة يجب الإيمان بها والتسليم لما جاء منها ، وبالله التوفيق .

حدثنا محمد بن عبد الملك قال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد قال : حدثنا الزعفراني قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حفت النار بالشهوات ، وحفت الجنة بالمكاره .

وحدثناه عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا ابن أبي غالب عبيد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن محمد الباهلي قال : حدثنا رزق الله بن [ ص: 116 ] موسى قال : حدثنا ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

ورواه الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الجنة حفت بالمكاره ، وإن النار حفت بالشهوات .

وأما قوله : اشتكت النار إلى ربها ، فحمله قوم على المجاز ، كقول الشاعر :


شكا إلي جملي طول السرى

وكقول عنترة :


وشكا إلي بعبرة وتحمحم

وكقول القائل :


امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني

وكقول العرب : قالت السماء فهطلت .

وقالت رجلي فخدرت ، ونحو هذا .

وكقول عروة بن حزام حين جعل القول لمن لا يوجد منه قول :


ألا يا غرابي دمنة الدار بينا أبا لصرم من عفراء تنتحبان
فإن كان حقا ما تقولان فانهضا بلحمي إلى وكريكما فكلاني

وكقول ذي الرمة :


فقالت لي العينان سمعا وطاعة وحدرتا مثل الجمان المنظم

[ ص: 117 ] ومثل هذا قول القائل :


كم أناس في نعيم عمروا في ذرى ملك تعالى فبسق
سكت الدهر زمانا عنهم ثم أبكاهم دما حين نطق

وهذا ومثله كثير في أشعار العرب ولغاتها ، وقد زدنا هذا المعنى بيانا في باب زيد بن أسلم .

وقال جماعة من أهل العلم : إن ذلك على الحقيقة ، وإنها تنطق ينطقها الله الذي ينطق الجلود وكل شيء ، ولها لسان كما شاء الله عز وجل ، فاستشهدوا بقوله عز وجل ( يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ) وبقوله ( سمعوا لها تغيظا وزفيرا ) وبما جاء من نحو هذا في الآثار الثابتة نحو قوله : فتقول قط قط ، وتقول : وكلت بكل جبار عنيد ، وهذا ونحوه في القرآن والأحاديث كثير جدا ، وحملوا ما في القرآن والآثار من مثل هذا على الحقيقة .

واحتجوا بقول الله عز وجل ( يقص الحق ) وقوله ( والحق أقول ) ونحو هذا ، ولكلا القولين وجه يطول الاعتلال له ، والله الموفق للصواب .




الخدمات العلمية