( وقال ) الإمام أبو محمد مكي في مصنفه الذي ألحقه بكتابه " الكشف " له : فإن سأل [ ص: 14 ] سائل فقال : ؟ فالجواب أن جميع ما روي في القرآن على ثلاثة أقسام : قسم يقرأ به اليوم ، وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال ، وهن : أن ينقل عن الثقات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن سائغا ، ويكون موافقا لخط المصحف . فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث قرئ به وقطع على مغيبه وصحته وصدقه ; لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقة خط المصحف ، وكفر من جحده . فما الذي يقبل من القرآن الآن فيقرأ به ؟ وما الذي لا يقبل ولا يقرأ به ؟ وما الذي يقبل ولا يقرأ به
قال : ( والقسم الثاني ) ما صح نقله عن الآحاد وصح وجهه في العربية وخالف لفظه خط المصحف ، فهذا يقبل ولا يقرأ به لعلتين : إحداهما أنه لم يؤخذ بإجماع ، إنما أخذ بأخبار الآحاد ولا يثبت قرآن يقرأ به بخبر الواحد ، والعلة الثانية أنه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على مغيبه وصحته وما لم يقطع على صحته لا يجوز القراءة به ، ولا يكفر من جحده ، ولبئس ما صنع إذا جحده .
قال ( والقسم الثالث ) هو ما نقله غير ثقة أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية ، فهذا لا يقبل وإن وافق خط المصحف ، قال : ولكل صنف من هذه الأقسام تمثيل تركنا ذكره اختصارا . ( قلت ) : ومثال القسم الأول مالك و ( ملك ) و ( يخدعون ) و يخادعون ( وأوصى ) ووصى و ( يطوع ) و تطوع ونحو ذلك من القراءات المشهورة . ومثال القسم الثاني قراءة عبد الله بن مسعود : ( والذكر والأنثى ) في وأبي الدرداء وما خلق الذكر والأنثى وقراءة ابن عباس ( وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وأما الغلام فكان كافرا ) ونحو ذلك مما ثبت بروايات الثقات ، ( واختلف العلماء ) في جواز القراءة بذلك في الصلاة ، فأجازها بعضهم لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة ، وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد . وأكثر العلماء على عدم الجواز ; لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني ، أو أنها [ ص: 15 ] لم تنقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة ، كل هذه مآخذ للمانعين ، ( وتوسط بعضهم ) فقال : إن قرأ بها في القراءة الواجبة وهي الفاتحة عند القدرة على غيرها لم تصح صلاته ; لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة لعدم ثبوت القرآن بذلك ، وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل ; لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل لجواز أن يكون ذلك من الحروف التي أنزل عليها القرآن ، وهذا يبتنى على أصل ، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة ، فهل يجب القطع بكونه ليس منها ؟
فالذي عليه الجمهور أنه لا يجب القطع بذلك ، إذ ليس ذلك مما وجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا وهذا هو الصحيح عندنا ، وإليه أشار مكي بقوله : ولبئس ما صنع إذا جحده . وذهب بعض أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه حتى قطع بعضهم بخطأ من لم يثبت البسملة من القرآن في غير سورة النمل ، وعكس بعضهم فقطع بخطأ من أثبتها ; لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه ، والصواب أن كلا من القولين حق ، وأنها آية من القرآن في بعض القراءات وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين ، وليست آية في قراءة من لم يفصل بها والله أعلم . وكان بعض أئمتنا يقول : وعلى قول من حرم القراءة بالشاذ يكون عالم من الصحابة وأتباعهم قد ارتكبوا محرما بقراءتهم بالشاذ ، فيسقط الاحتجاج بخبر من يرتكب المحرم دائما وهم نقلة الشريعة الإسلامية ، فيسقط ما نقلوه فيفسد على قول هؤلاء نظام الإسلام والعياذ بالله .
قال : ويلزم أيضا أن الذين قرءوا بالشواذ لم يصلوا قط ; لأن تلك القراءة محرمة والواجب لا يتأدى بفعل المحرم وكان مجتهد العصر أبو الفتح محمد بن علي بن دقيق العيد يستشكل الكلام في هذه المسألة ويقول : الشواذ نقلت نقل آحاد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيعلم ضرورة أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ بشاذ منها وإن لم يعين ، قال : فتلك القراءة تواترت وإن لم تتعين بالشخص ، فكيف يسمى شاذا والشاذ لا يكون متواترا ؟
قلت : وقد تقدم آنفا ما يوضح هذه الإشكالات [ ص: 16 ] من مآخذ من منع القراءة بالشاذ ، وقضية ابن شنبوذ في منعه من القراءة به معروفة وقصته في ذلك مشهورة ذكرناها في كتاب الطبقات ، وأما إطلاق من لا يعلم على ما لم يكن عن السبعة القراء ، أو ما لم يكن في هذه الكتب المشهورة كالشاطبية والتيسير أنه شاذ ، فإنه اصطلاح ممن لا يعرف حقيقة ما يقول كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى .