( وأما ) كون فإن هذه مسألة كبيرة اختلف العلماء فيها : فذهب جماعات من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة ، وبنوا ذلك على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها ، وقد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة ، أبو بكر وعمر وإرسال كل مصحف منها إلى مصر من أمصار المسلمين وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك ، قال هؤلاء : ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة ولا أن يجمعوا على ترك شيء من القرآن ، وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي - صلى الله عليه وسلم - على جبرائيل - عليه السلام - متضمنة لها لم تترك حرفا منها .
( قلت ) : وهذا القول هو الذي يظهر صوابه ; لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه وتشهد له إلا أن له تتمة لا بد من ذكرها نذكرها آخر هذا الفصل ، ( وقد أجيب ) عما استشكله أصحاب القول الأول بأجوبة منها ما قاله الإمام المجتهد وغيره وهو أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة ، وإنما كان ذلك جائزا لهم ومرخصا فيه وقد جعل لهم الاختيار في أي حرف قرءوا به كما في الأحاديث الصحيحة ، قالوا : فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك اجتماعا سائغا وهم معصومون أن يجتمعوا [ ص: 32 ] على ضلالة ، ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور ، وقال بعضهم : إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم ، وهو أوفق لهم أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة ، وبعضهم يقول إنه نسخ ما سوى ذلك ; ولذلك نص كثير من العلماء على أن الحروف التي وردت عن محمد بن جرير الطبري أبي وابن مسعود وغيرهما مما يخالف هذه المصاحف منسوخة ، وأما من يقول : إن بعض الصحابة كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه ، إنما قال : نظرت القراءات فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم . نعم كانوا ربما يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا فهم آمنون من الالتباس وربما كان بعضهم يكتبه معه ، لكن كابن مسعود - رضي الله عنه - كان يكره ذلك ويمنع منه فروى ابن مسعود مسروق عنه أنه كان يكره التفسير في القرآن وروى غيره عنه : " جردوا القرآن ولا تلبسوا به ما ليس منه " .
( قلت ) : ولا شك أن القرآن نسخ منه وغير فيه في العرضة الأخيرة فقد صح النص بذلك عن غير واحد من الصحابة ، وروينا بإسناد صحيح قال : قال لي زر بن حبيش أي القراءتين تقرأ ؟ قلت : الأخيرة قال : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض القرآن على ابن عباس جبريل - عليه السلام - في كل عام مرة قال : فعرض عليه القرآن في العام الذي قبض فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين ، فشهد عن - ما نسخ منه وما بدل ، فقراءة عبد الله - يعني ابن مسعود عبد الله الأخيرة . وإذ قد ثبت ذلك فلا إشكال أن الصحابة كتبوا في هذه المصاحف ما تحققوا أنه قرآن وما علموه استقر في العرضة الأخيرة ، وما تحققوا صحته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم ينسخ ، وإن لم تكن داخلة في العرضة الأخيرة ; ولذلك اختلفت المصاحف بعض اختلاف ، إذ لو كانت العرضة الأخيرة فقط لم تختلف المصاحف بزيادة ونقص وغير ذلك وتركوا ما سوى ذلك ; ولذلك لم يختلف عليهم اثنان حتى [ ص: 33 ] إن - رضي الله عنه - لما ولي الخلافة بعد ذلك لم ينكر حرفا ولا غيره ، مع أنه هو الراوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن تقرءوا القرآن كما علمتم ، علي بن أبي طالب وهو القائل : لو وليت من المصاحف ما ولي عثمان لفعلت كما فعل . والقراءات التي تواترت عندنا عن عثمان وعنه وعن ابن مسعود وأبي وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكن بينهم فيها إلا الخلاف اليسير المحفوظ بين القراء ، ثم إن الصحابة - رضي الله عنهم - لما كتبوا تلك المصاحف جردوها من النقط والشكل ليحتمله ما لم يكن في العرضة الأخيرة مما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين ، فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - تلقوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أمره الله تعالى بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعا ، ولم يكونوا ليسقطوا شيئا من القرآن الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا يمنعوا من القراءة به .