( مسألة المراودة والهم والمطاردة ) :
( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ) هذه الجملة معطوفة على جملة وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه ، وما عللها به من حسن الرجاء فيه ، وما بينه الله - تعالى - من عنايته به وتمهيد سبيل الكمال له بتمكينه في الأرض ، يقول : إن هذه المرأة التي هو في بيتها نظرت إليه بغير العين التي نظر إليه بها زوجها ، وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراده الله من فوقهما ، هو أراد أن يكون قهرمانا أو ولدا لهما ، والله أراد أن يمكن له في الأرض ويجعله سيد البلاد كلها ، وهي أرادت أن يكون عشيقا لها ، وراودته عن نفسه ، أي خادعته عنها وراوغته ؛ لأجل أن يرود أو يريد منها ما تريد هي منه مخالفا لإرادته هو وإرادة ربه ( والله غالب على أمره ) 21 قال في المصباح المنير : أراد الرجل كذا إرادة وهو الطلب والاختيار ، وراودته على الأمر مراودة وروادا ( ( من باب قاتل ) ) طلبت منه فعله ، وكأن في المراودة معنى المخادعة ؛ لأن المراود يتلطف في طلبه تلطف المخادع ويحرص حرصه .
وقال الراغب : المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد ، أو ترود غير ما يرود ، وذكر شواهد الآيات في هذه القصة ومنها قول إخوة يوسف له : ( سنراود عنه أباه ) 61 أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل أخاه معنا . وقال في أساس البلاغة : وراوده عن نفسه خادعه عنها وراوغه ، وقال في الكشاف : المراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب ، كأن المعنى خادعته عن نفسه ، أي فعلت ما يفعل المخادع عن الشيء [ ص: 228 ] الذي لا يريد أن يخرجه من يده ، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهي عبارة عن التحيل لمواقعته إياها . انتهى . ولو رأت منه أدنى ميل إليها وهي تخلو به في مخادع بيتها لما احتاجت إلى مخادعته بالمراودة ، ولما خابت في التعريض له بالمغازلة والمهازلة ، تنزلت إلى المكاشفة والمصارحة ، إذ كان كل ما سبقه منها وحدها ولم يشاركها فيه ، ( وغلقت الأبواب ) أي أحكمت إغلاق باب المخدع الذي كانا فيه ، وباب البهو الذي يكون أمام الحجرات والغرف في بيوت الكبراء ، وباب الدار الخارجي ، وقد يكون في أمثال هذه القصور أبواب أخرى متداخلة ( وقالت هيت لك ) أي هلم أقبل وبادر ، وزيادة لك بيان للمخاطب ، كما يقولون : هلم لك وسقيا لك ، واقتصر على هذا في التنزيل ، وهو منتهى النزاهة في التعبير ، والله أعلم بما زادته من الإغراء والتهييج الذي تقتضيه الحال ، ونقل رواة الإسرائيليات عنها وكذا عنه من الوقاحة ما يعلم بالضرورة أنه كذب ، فإن مثله لا يعلم إلا من الله - تعالى - أو بالرواية الصحيحة عنها أو عنه ، ولا يستطيع أن يدعي هذا أحد كما يأتي قريبا . و ( هيت ) اسم فعل قرئ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وبضمها كحيث ، وروي أنها لغة عرب حوران ، وكان سبب اختيارها أنها أخصر ما يؤدي المراد بأكمل النزاهة اللائقة بالذكر الحكيم ، وهو مالم يعقله أولئك الرواة لما يخالفه ويناقضه ( قال معاذ الله ) أي أعوذ بالله معاذا وأتحصن به فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين الفاسقين ، كما قال بعد أن استعانت عليه بكيد صواحبها من النسوة : ( وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ) 33 .
وجملة قال معاذ الله ) إلخ بيان مستأنف لجواب ( يوسف مبني على سؤال تقديره : وماذا قال بعد تسفل المرأة - وهي سيدته - إلى هذه الدركة من التذلل له ؟ وهو كما قالت مريم ابنة عمران للملك الذي تمثل لها بشرا سويا : ( إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) 19 : 18 وعلل هذه الاستعاذة بقوله : ( إنه ربي أحسن مثواي ) أي إنه - تعالى - ولي أمري كله ، أحسن مقامي عندكم وسخركم لي بما وفقني له من الأمانة والصيانة ، فهو يعيذني ويعصمني من عصيانه وخيانتكم ، ويحتمل أنه أراد بربه مالكه العزيز في الصورة وإن كان حرا مظلوما في الحقيقة ، كما يقال : رب الدار ، وكان من عرفهم إطلاقه على الملوك والعظماء كما يأتي في قوله - عليه السلام - لساقي الملك في السجن ( اذكرني عند ربك ) 42 ولكن الله عاقبه أنه لم يذكر حينئذ ربه ، فكان نسيانه له سببا لطول مكثه في السجن كما يأتي ، ثم إنه قال لرسول الملك ، إذ جاءه يطلبه لأجله : ( ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ) .
وعلى هذا القول - وقد جرى عليه الجمهور - يكون الضمير في إنه ما يسمونه ضمير الشأن والقصة ، أي إن الشأن الذي أنا فيه هو أن [ ص: 229 ] سيدي المالك لرقبتي قد أحسن معاملتي في إقامتي عندكم وأوصاك بإكرام مثواي ، فلن أجزيه على إحسانه بشر الإساءة وهو خيانته في أهله ، وهذا التفسير تعليل لرد مراودتها بعد الاستعاذة بالله منها ، لا تعليل للاستعاذة نفسها كالأول ، والفرق بينهما دقيق لما بينهما من العموم في الأول والخصوص في الثاني ، ثم علل امتناعه بما هو خاص بنزاهة نفسه فقال : إنه لا يفلح الظالمون لأنفسهم وللناس كالخيانة لهم والتعدي على أعراضهم وشرفهم ، ولا يفلحون في الدنيا ببلوغ مقام الإمامة الصالحة والرياسة العادلة ، ولا في الآخرة بجوار الله ونعيمه ورضوانه . . . . . . . وفي جملة الجواب من الاعتصام والاعتزاز بالإيمان بالله ، والأمانة للسيد صاحب الدار ، والتعريض بخيانة امرأته له المتضمن لاحتقارها ، ما أضرم في صدرها نار الغيظ والانتقام ، مضاعفة لنار الغرام ، وهو ما بينه - تعالى - بقوله مؤكدا بالقسم لأنه مما ينكره الأخيار من شرور الفجار .
( ولقد همت به ) أي وتالله لقد همت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها ، وهي في نظرها سيدته وهو عبدها ، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه ، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة ، ومراودة عن نفسها لا مراودة ، حتى إن حماة الأنوف من كبراء الرجال ؛ ليطأطئون الرءوس لفقيرات الحسان ربات الجمال ، ويبذلون لهم ما يعتزون به من الجاه والمال ، بل إن الملوك ليذلون أنفسهم لمملوكاتهم وأزواجهم ولا يأبون أن يسموا أنفسهم عبيدا لهن ، كما روي عن بعض ملوك الأندلس :
نحن قوم تذيبنا الأعين النج ل على أننا نذيب الحديدا
فترانا لدى الكريهة أحرا را وفي السلم للملاح عبيدا
ولكن هذا العبد العبراني الخارق للطبيعة البشرية في حسنه وجماله ، وفي جلاله وكماله ، وفي إبائه وتألهه ، قد عكس القضية ، وخرق نظام الطبيعة والعوائد بين الجنسين ، فأخرج المرأة من طبع أنوثتها في إدلالها وتمنعها ، وهبط بالسيدة المالكة من عزة سيادتها وسلطانها ، ودهور الأميرة ( الأرستقراطية ) من عرش عظمتها وتكبرها ، وأذلها لعبدها وخادمها ، وبما هونه عليها : قرب الوساد ، وطول السواد والخلوة من وراء الأستار والأبواب ، حتى إنها لتراوده عن نفسه في مخدع دارها ، فيصد عنها علوا ونفارا ، ثم تصارحه بالدعوة إلى نفسها فيزداد عتوا واستكبارا ، معتزا عليها بالديانة والأمانة ، والترفع عن الخيانة ، [ ص: 230 ] وحفظ شرف سيده وهو سيدها وزوجها وحقه عليها أعظم ، إن هذا الاحتقار لا يطاق ، ولا علاج لهذا الفاتن المتمرد إلا تذليله بالانتقام ، هذا ما ثار في نفس هذه المرأة المفتونة بطبيعة الحال ( كما يقال ) وشرعت في تنفيذه أو كادت ، بأن همت بالبطش به في ثورة غضبها ، وهو انتقام معهود من مثلها وممن دونها في كل زمان ومكان ، وأكثر بما ترويه لنا منه قضايا المحاكم وصحف الأخبار ، وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله وهو قوله - تعالى - : وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه ، ما هو مصداق قوله - تعالى - : ( ( والله غالب على أمره ) 21 وهو إما النبوة التي تلي الحكم والعلم اللذين آتاه الله إياهما بعد بلوغ الأشد ، وشاهده قوله - تعالى - : قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) 4 : 174 وإما معجزتها كما قال - تعالى - لموسى في آيتي العصا واليد ( فذانك برهانان من ربك ) 28 : 32 وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا وهي مراقبته لله - تعالى - ورؤية ربه متجليا له ناظرا إليه ، وفاقا لما قاله أخوه محمد - خاتم النبيين - في تفسير الإحسان : ( ( ) ) أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك فيوسف قد رأى هذا البرهان في نفسه ، لا صورة أبيه متمثلة في سقف الدار ، ولا صورة سيده العزيز في الجدار ، ولا صورة ملك يعظه بآيات من القرآن ، وأمثال هذه الصورة التي رسمتها أخيلة بعض رواة التفسير المأثور بما لا يدل عليه دليل من اللغة ولا العقل ولا الطبع ولا الشرع ، ولم يرو في خبر مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح ولا فيما دونها . وما قلناه هو المتبادر من اللغة ووقائع القصة ، ومقتضى ما وصف الله به يوسف في هذا السياق وغيره من السورة ، ولاسيما قوله في أوله : ( وكذلك نجزي المحسنين ) 22 وما فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - به الإحسان ، وقوله في تعليله : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) أي كذلك فعلنا وتصرفنا في أمره لنصرف عنه دواعي ما أرادته به أخيرا من السوء ، وما راودته عليه قبله من الفحشاء ، بحصانة أو عصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية في نفسه ، فلا يصيبه شيء يخرجه من جماعة المحسنين الذين شهدنا له بأنه منهم ، إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو في رده عليها بأنهم لا يفلحون وشهادته حق ( إنه من عبادنا المخلصين ) بفتح اللام وهم آباؤه الذين أخلصهم ربهم وصفاهم من الشوائب وقال فيهم : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار 38 : 45 - 47 وقد قلنا في أول القصة : إن يوسف هو الحلقة الرابعة في سلسلتهم الذهبية ، وأن أباه بشره بذلك بعد أن قص عليه رؤياه إذ قال له : ( وكذلك يجتبيك ربك ) 6 فالاجتباء هو الاصطفاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ( المخلصين ) بكسر اللام . والقراءتان متلازمتان فهم مخلصون لله في إيمانهم به وحبهم وعبادتهم له ، [ ص: 231 ] ومخلصون عنده بالولاية والنبوة والعناية والوقاية من كل ما يبعدهم عنه ويسخطه عليهم ، والجملة تعليل لصرف الله للسوء والفحشاء عنه ، ولم يقل : لنصرفه عن السوء والفحشاء فإنه لم يعزم عليهما ، بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما ، وهمه لأول وهلة بدفع صيالها هم بأمر مشروع ، وجد مقتضيه مقترنا بالمانع منه وهو رؤيته برهان ربه فلم ينفذه ، فكان الفرق بين همها وهمه أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها من خيبتها وإهانته لها ، فلما رأى أمارة وثوبها عليه استعد للدفاع عن نفسه وهم به ، فكان موقفهما موقف المواثبة ، والاستعداد للمضاربة ، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته مالم تر هي مثله ، فألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي تتم به حكمته - سبحانه وتعالى - فيما أعده له ، فلجأ إلى الفرار ترجيحا للمانع على المقتضي ، وتبعته هي مرجحة للمقتضي على المانع حتى صار جزما ، واستبقا باب الدار ، وكان من أمرهما ما يأتي بيانه في الآية التالية ، ونقدم عليه رأي الجمهور في الهم من الجانبين .