[ ص: 4 ] بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=treesubj&link=28982_28899 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1الر nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=2ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=4إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ) .
هذه الآيات الأربع في أصول الدعوة إلى دين الله - تعالى - وهي القرآن وما بينه من توحيد الله - تعالى - وعبادته وحده ، والإيمان برسله وبالبعث والجزاء ، وعمل الصالحات ، خوطب بها الناس من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدون ذكرهم ، ولا ذكر لأمره - تعالى - له به ، للعلم بكل منهما بالقرينة ، وبنزول هذه السورة عقب سورة يونس التي افتتحت بمثل هذا .
( الر ) تقرأ كأمثالها بأسماء الحروف ساكنة لا بمسمياتها ، فيقال : ألف ، لام ، را ، ومذهب
الخليل nindex.php?page=showalam&ids=16076وسيبويه أنها اسم للسورة ، أو للقرآن ( وبينا حكمة الابتداء بها في أول تفسير سورة الأعراف ) ومحلها الرفع على الابتداء أو الخبرية عند الأكثر .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كتاب أحكمت آياته ) : أي هذا كتاب عظيم الشأن ( كما أفاده التنوين ) جعلت آياته محكمة النظم والتأليف ، واضحة المعاني بليغة الدلالة والتأثير ، فهي كالحصن المنيع ، والقصر المشيد الرفيع ، في إحكام البناء ، وما يقصد به من الحفظ والإيواء مع حسن الرواء ، فهي لظهور دلالتها على معانيها ووضوحها لا تقبل شكا ولا تأويلا ، ولا تحتمل تغييرا ولا تبديلا (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1ثم فصلت ) : أي جعلت فصولا متفرقة في سوره ببيان حقائق العقائد ،
[ ص: 5 ] والأحكام والحكم والمواعظ ، وسائر ما أنزل الكتاب له من الفوائد ، كما يفصل الوشاح أو العقد بالفرائد ، فالإحكام والتفصيل فيه مرتبتان من مراتب البيان مجتمعتان ، لا نوعان منه متفرقان يختلفان في الزمان ، أو فصلت بعد الإجمال ، كما ترى في القصص القصار والطوال ، وقد أبهما ببناء فعليهما للمفعول ، ثم بينا بجعلهما من لدن حكيم خبير ، وهو أبلغ من إسنادهما إليه ابتداء ، أي من عند حكيم كامل الحكمة هو الذي أحكمها ، وخبير تام الخبرة هو الذي فصلها ، و ( ( لدن ) ) ظرف مكان أخص من ( ( عند ) ) وأبلغ ، وهو بفتح فضم ( كعضد ) مبني على السكون .
هذا ما يتبادر إلى فهم العربي القح من عبارة الآية ، فإذا عرضته على ما جاء في القرآن من حرفي الإحكام والتفصيل وجدت فيه من الحرف الأول ثلاث كلمات : ( الأولى ) قوله - تعالى - في سورة الحج :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته 22 : 52 ، ( والثانية ) قوله - تعالى - في سورة محمد ( ( القتال ) ) :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=20ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال 47 : 20 الآية . . ( والثالثة ) قوله - تعالى - في سورة
آل عمران : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) ( 3 : 7 ) ووجدت الإحكام في كل منهن بالمعنى اللغوي الذي بيناه آنفا . وقد حمل المقلدون المحكم في الآية الثانية على ما يقابل المنسوخ في اصطلاحهم ، فقالوا : سورة محكمة غير منسوخة ، وهذا الحمل غير صحيح وإن كان المراد منه صحيحا ; فإن هذا الاصطلاح ليس من أصل اللغة ولا من عرف القرآن ، بل وضع بعد نزوله ، والآية الأولى حجة على هذا ; فإن النسخ فيها غير النسخ الأصولي ، ولا يصح أن يكون المعنى : فإذا أنزلت سورة غير منسوخة لا كلها ولا بعضها ; لأن إنزال سورة منسوخة محال في نفسه ، فلا معنى إذا لنفيه ، وحملوه في الثالثة على ما يقابل المتشابه وهو صحيح ، ولكنهم اختلفوا في معنى كل منهما ، وأشهر الأقوال عند أهل الكلام والأصول فيهما مخالف لمدلول اللغة وللمروي عن جمهور السلف الذي هو الحق . قال
السيد الجرجاني في الأول :
nindex.php?page=treesubj&link=28092المحكم ما أحكم ، المراد به عن التبديل والتغيير أي التخصيص والتأويل والنسخ ، مأخوذ من قولهم : بناء محكم ، أي متقن مأمون الانتقاض ، وذلك مثل قوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=75إن الله بكل شيء عليم ) والنصوص الدالة على ذات الله وصفاته ؛ لأن ذلك لا يحتمل النسخ ، فإن اللفظ إذا ظهر منه المراد فإن لم يحتمل النسخ فهو محكم ، وإلا فإن لم يحتمل التأويل فمفسر ، وإلا فإن سيق الكلام لأجل ذلك المراد فنص ، وإلا فظاهر ، وإذا خفي لعارض أي لغير الصيغة فخفي ،
[ ص: 5 ] وإن خفي لنفسه أي لنفس الصيغة وأدرك عقلا فمشكل ، أو نقلا فمجمل ، أو لم يدرك أصلا فمتشابه اهـ . وقال في الثاني :
nindex.php?page=treesubj&link=28084المتشابه ما خفي بنفس اللفظ ولا يرجى دركه أصلا كالمقطعات في أول السور ، وقال
التاج السبكي في جمع الجوامع : والمتشابه ما استأثر الله بعلمه وقد يطلع عليه بعض أصفيائه ، اهـ . وكلا القولين خطأ كما يعلم مما فسرنا به الآية في الجزء الثاني .
وقال السيد في
nindex.php?page=treesubj&link=21294تعريف التأويل : هو في الأصل الترجيح ، وفي الشرع صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا بالكتاب والسنة مثل قوله - تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=95يخرج الحي من الميت ) ( 6 : 95 ) إن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا ، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا ، اهـ . وقال
التاج السبكي :
nindex.php?page=treesubj&link=21294الظاهر ما دل دلالة ظنية ، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، فإن حمل لدليل فصحيح ، أو لما يظن دليلا ففاسد ، أو لا لشيء فلعب لا تأويل ، اهـ .
هذا الاصطلاح المفصل لهذه الحكايات فيه ما ترى - في كتب الأصول - من قيل وقال ، ومذاهب وجدال ، وهو ما لم يكن يخطر في بال أحد من العرب عند قراءاتها في كتاب الله - تعالى - بل كانوا يفهمونها بمدلولها اللغوي المحض ، فأما المحكم فهو ما تقدم .
وأما التفصيل في الآية فقد جاء مكررا في أكثر من عشرين موضعا من عشر سور مكية ، وفي موضع واحد من سورة التوبة المدنية ، وأكثرها في تفصيل الآيات القرآنية والعقلية ، وبعضها في تفصيل الكتاب ، وبعض آخر في تفصيل الأحكام ، ونوع آخر أعم وهو ( تفصيل كل شيء ) أي مما يتعلق بهداية الدين ، وإصلاح أمور المكلفين ، وكلها داخل في المعنى اللغوي الذي حررناه .
بقي علينا المأثور في الكلمتين عن مفسري السلف ، وهو قليل مختصر ، فعن
ابن زيد في هذه السورة ( قال ) : إنها كلها مكية محكمة ، وإن التفصيل فيها هو الحكم بين محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن خالفه في قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=24مثل الفريقين كالأعمى والأصم ) ( 24 ) الآية ، ثم ذكر قوم
نوح وقوم
هود ( قال ) : فكان هذا تفصيل ذلك وكان أوله محكما ، انتهى .
بالمعنى . وحاصله : أن المحكم المجمل ، وأن المفصل ما يقابله بالمعنى اللغوي فيهما . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : أحكمت بالأمر والنهي ، وفصلت بالوعد والوعيد ، وعن
مجاهد : ثم فصلت ، قال : فسرت ، وعن
قتادة : أحكمها الله من الباطل ثم فصلها الله بعلمه ، فبين حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته ، وهذه الروايات كلها تدخل في المعنى اللغوي الذي بيناه ولا تحيط به .
والقول الجامع : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28386تفصيل الإجمال في القرآن قسمان : ( الأول ) تفصيل أصول العقائد
[ ص: 7 ] وكليات التشريع العامة ، وأكثره في السور المكية ، كما بيناه متفرقا ثم مجملا في تفسير ما تقدم تفسيره منها ، وهو الأنعام والأعراف ويونس ، ( والثاني ) ما يعم تفصيل الأحكام العملية من العبادات والمعاملات السياسية والمدنية والحربية كما بيناه في السور المدنية الطوال المتقدمة أيضا .
nindex.php?page=treesubj&link=28982_28678 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=2ألا تعبدوا إلا الله ) ، هذا تفسير أو بيان لأول ما أحكمت وفصلت به وله الآيات : أي بألا تعبدوا إلا الله ، أو لئلا تعبدوا إلا الله ، وهو أن تجعلوا عبادتكم له وحده ، لا تشركوا به شيئا ، وهذا ما تراه قريبا في قصص الرسل المفصلة في هذه السورة ، ويؤيد الجمع بين طرفي التوحيد السلبي والإيجابي قوله - تعالى - :
nindex.php?page=treesubj&link=28982_31037 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=2إنني لكم منه نذير وبشير ) وهو تبليغ لدعوة الرسالة مبين لوظيفة الرسول ، وهي إنذار من أصر على شركه وما يتبعه من الكفر والمعاصي بالعذاب الأليم ، وتبشير من آمن واتقى بالسعادة والنعيم المقيم ، وقدم الإنذار لأن الخطاب وجه أولا إلى المشركين كنظيره في سورة يونس وأمثالهما من السور المكية كسورة الكهف ، والمبلغ هذا هو النبي - صلى الله عليه وسلم - .
nindex.php?page=treesubj&link=28982_20011 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3وأن استغفروا ربكم ) هذا عطف على ما قبله ، أي وأن اسألوه أن يغفر لكم ما كان من الشرك والكفر والإجرام والظلم (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3ثم توبوا إليه ) أي ثم ارجعوا إليه من كل إعراض - عنه وعن آياته - يعرض لكم بترك الواجب أو فعل محرم ، نادمين منيبين مصلحين لما أفسدتم ، مستدركين ما قصرتم ، عطف التوبة بـ ( ثم ) لأن مرتبة العمل متأخرة عن مرتبة القول ، فكم من مستغفر وهو مصر على الذنب ، وسيأتي مثله في قصة كل من
هود ،
وصالح ،
وشعيب (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3يمتعكم متاعا حسنا ) المتاع : كل ما ينتفع به في المعيشة وحاجة البيوت ، والإمتاع والتمتيع : إعطاء ما يتمتع به تمتعا طويلا ممتدا ، وأما وصفه - تعالى - لمتاع الدنيا وتمتع أهلها بها بالقليل فهو بالإضافة إلى حياة الآخرة ، والمعنى : إن تستغفروا ربكم عند كل ذنب ، وتتوبوا إليه من كل إعراض عن هدايته ، وتنكب عن سنته ، يمتعكم في دنياكم متاعا حسنا مرضيا ممتدا (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3إلى أجل مسمى ) عنده وهو العمر المقدر لكم في علمه ، المكتوب في نظام الخليقة وسنن الاجتماع البشري في عباده ، فلا يقطعه إهلاككم بعذاب الاستئصال ، ولا بفساد العمران وسلب الاستقلال ، ولا ينغصه كل ما ينغص حياة الكفار ، وذلك أن لتنغيص الحياة في الدنيا وسلب النعم من أهلها أسبابا ترجع كلها إلى الإصرار على الكفر والذنوب المحرمة ، وهي لم تكن محرمة إلا لأنها ضارة مفسدة للدين ، أو مزيلة للحياة أو للعقل أو للصحة أو لنظام الاجتماع المالي والمدني ، وإنما تكون مفسدة بإصرار فاعليها عليها ، فإذا كان من تعرض له يندم ويبادر إلى التوبة من قريب ، ويصلح ما نجم من فسادها بالعمل المضاد له ، امتنع ذلك الفساد وزال أثره ; ولهذا اشترط في
nindex.php?page=treesubj&link=19716التوبة المقبولة ما اشترط
[ ص: 8 ] ووصفت في القرآن بما وصفت كقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ) ( 4 : 17 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=39فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ) ( 5 : 39 ) وفي معناه آيات أخرى ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) ( 3 : 135 ) وقد سبق تفسيرها في مواضعها .
وهذه السنة الربانية مطردة في ذنوب الأمم المقصودة بالقصد الأول من هذا الخطاب ، وهي فيها أظهر منها في ذنوب الأفراد ( كما بيناه في مواضع عديدة من هذا التفسير ) فالأمم التي تصر على الظلم والفساد والفسوق والعصيان ، يهلكها الله - تعالى - في الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران ، حتى تزول منعتها ، وتتمزق دولتها ، فتنقرض أو تستولي عليها دولة أخرى ، فهذا معروف في تواريخ الأمم من أحوالها العامة في كل عصر ، وأما أقوام الرسل - عليهم السلام - في عصورهم فقد أهلك الله المصرين منهم على الكفر والعناد ، بعد قيام الحجة عليهم بعذاب الخزي والاستئصال ، كما بيناه في مواضعها ، وأقربها عهدا أواخر سورة يونس - عليه السلام - والآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال كما بيناه في تفسير سورة يونس أيضا ، وسنعود إلى بيان هذا في تفسير الآيات ( 100 - 103 ) التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة .
وأما قوله - تعالى - :
nindex.php?page=treesubj&link=29468_28982 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3ويؤت كل ذي فضل فضله ) فهو عام مطلق في جزاء الأفراد في الآخرة ، مقيد في جزائهم في الدنيا ، ومعناه مع الذي قبله : إنكم أيها المخاطبون بهذه الآيات من قوم
محمد رسول الله وخاتم النبيين ، إن تجتنبوا الشرك وتؤمنوا بالله ورسوله وتستغفروا ربكم ، وتتوبوا إليه عقب كل ذنب يقع منكم ، يمتعكم بجملتكم ومجموعكم متاعا حسنا تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة ودولة ، ويعط كل ذي فضل من علم وعمل جزاء فضله في الآخرة مطردا كاملا ، وأما في الدنيا فقد يكون هذا الجزاء جزئيا ناقصا ، ومشوبا لا خالصا ، ولا يكون عاما كاملا مطردا لقصر أعمار الأفراد ، والتعارض والترجيح في سنن الأسباب والمسببات ، وهذا من أدلة البعث وجزاء الآخرة الذي يظهر فيه عدله - تعالى - كاملا شاملا .
وبهذا التفسير الذي وفقنا الله - تعالى - له يظهر ما بيناه مرارا من أن
nindex.php?page=treesubj&link=29674ثمرة الدين سعادة الدنيا والآخرة كلتيهما ، وقد غفل عنه المفسرون الذين يعارضون أمثال هذه النصوص بما جعلوه أصلا يرجعونها إليه بالتأويل ، كأحاديث ذم الدنيا وتسميتها ( ( سجن المؤمن وجنة الكافر ) ) وما يصح منها كهذا الحديث فهو محمول على النسبة بينهما ، بالإضافة إلى حال كل منهما في الدنيا والآخرة ، وحديث ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920509أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ) ) وهو صحيح
[ ص: 9 ] أيضا ، والبلاء الاختبار - يكون في النعم والنقم ، والخير والشر - يظهر استعداد الناس لكل منهما كما تراه قريبا في تفسير الآية ( 7 ) فليس مما نحن فيه مما وعد الله به رسله وبلغوه أقوامهم وصدقه الواقع ، فكانت العاقبة للمؤمنين بهم في خلافة الأرض وملكها ونعيمها ما ثبتوا على ذلك ، ومنه هذه البشارة ، ويقابلها قوله - تعالى - في الإنذار : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) أي وإن تتولوا معرضين عما دعوتكم إليه من عبادة الله - تعالى - وعدم عبادة غيره ، ومن الاستغفار والتوبة من كل ذنب ، فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير هوله ، شديد بأسه ، وهو أن يصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم ، أو ما دونه من عذاب المصرين ، في إثر نصر الرسول والمؤمنين ، وهذه براعة استهلال للقصص المفصلة في هذه السورة ، وأكثر المفسرين على أن المراد باليوم الكبير يوم القيامة الذي يكون فيه الجزاء الأكبر ، وهو المشار إليه في الآية التالية :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=4إلى الله مرجعكم ) أي إليه - تعالى - رجوعكم بعد موتكم جميعا أمما وأفرادا لا يتخلف أحد منكم فتلقون جزاءكم تاما (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=4وهو على كل شيء قدير ) ومنه بعثكم وحشركم وجزاؤكم .
قدم وصف الرسول بالنذير على وصفه بالبشير ، ثم قدم بشارة المؤمنين ، وأخر إنذار الكافرين المصرين تأليفا لهم ; لأن توالي الإنذار منفر من الاستماع ، مغر بالتولي والإعراض ، على أن هذا التأليف لم يؤثر فيهم كما ترى في قوله - تعالى - :
[ ص: 4 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=28982_28899 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1الر nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=2أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=4إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي أُصُولِ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهِيَ الْقُرْآنُ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ، وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ، وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ ، خُوطِبَ بِهَا النَّاسُ مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدُونِ ذِكْرِهِمْ ، وَلَا ذِكْرٍ لِأَمْرِهِ - تَعَالَى - لَهُ بِهِ ، لِلْعِلْمِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِالْقَرِينَةِ ، وَبِنُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ عَقِبَ سُورَةِ يُونُسَ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ هَذَا .
( الر ) تُقْرَأُ كَأَمْثَالِهَا بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ سَاكِنَةً لَا بِمُسَمَّيَاتِهَا ، فَيُقَالُ : أَلِفْ ، لَامْ ، رَا ، وَمَذْهَبُ
الْخَلِيلِ nindex.php?page=showalam&ids=16076وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهَا اسْمٌ لِلسُّورَةِ ، أَوْ لِلْقُرْآنِ ( وَبَيَّنَّا حِكْمَةَ الِابْتِدَاءِ بِهَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ ) وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْخَبَرِيَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ) : أَيْ هَذَا كِتَابٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ ( كَمَا أَفَادَهُ التَّنْوِينُ ) جُعِلَتْ آيَاتُهُ مُحْكَمَةَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ ، وَاضِحَةَ الْمَعَانِي بَلِيغَةَ الدَّلَالَةِ وَالتَّأْثِيرِ ، فَهِيَ كَالْحِصْنِ الْمَنِيعِ ، وَالْقَصْرِ الْمُشَيَّدِ الرَّفِيعِ ، فِي إِحْكَامِ الْبِنَاءِ ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ مِنَ الْحِفْظِ وَالْإِيوَاءِ مَعَ حُسْنِ الرِّوَاءِ ، فَهِيَ لِظُهُورِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَعَانِيهَا وَوُضُوحِهَا لَا تَقْبَلُ شَكًّا وَلَا تَأْوِيلًا ، وَلَا تَحْتَمِلُ تَغْيِيرًا وَلَا تَبْدِيلًا (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1ثُمَّ فُصِّلَتْ ) : أَيْ جُعِلَتْ فُصُولًا مُتَفَرِّقَةً فِي سُوَرِهِ بِبَيَانِ حَقَائِقِ الْعَقَائِدِ ،
[ ص: 5 ] وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ ، وَسَائِرِ مَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ لَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ ، كَمَا يُفْصَلُ الْوِشَاحُ أَوِ الْعِقْدُ بِالْفَرَائِدِ ، فَالْإِحْكَامُ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ مَرْتَبَتَانِ مِنْ مَرَاتِبِ الْبَيَانِ مُجْتَمِعَتَانِ ، لَا نَوْعَانِ مِنْهُ مُتَفَرِّقَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي الزَّمَانِ ، أَوْ فُصِّلَتْ بَعْدَ الْإِجْمَالِ ، كَمَا تَرَى فِي الْقَصَصِ الْقِصَارَ وَالطِّوَالَ ، وَقَدْ أُبْهِمَا بِبِنَاءِ فِعْلَيْهِمَا لِلْمَفْعُولِ ، ثُمَّ بُيِّنَا بِجَعْلِهِمَا مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ إِسْنَادِهِمَا إِلَيْهِ ابْتِدَاءً ، أَيْ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ كَامِلِ الْحِكْمَةِ هُوَ الَّذِي أَحْكَمَهَا ، وَخَبِيرٍ تَامِّ الْخِبْرَةِ هُوَ الَّذِي فَصَّلَهَا ، وَ ( ( لَدُنْ ) ) ظَرْفُ مَكَانٍ أَخَصُّ مِنْ ( ( عِنْدَ ) ) وَأَبْلَغُ ، وَهُوَ بِفَتْحٍ فَضَمٍّ ( كَعَضُدٍ ) مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ .
هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ الْعَرَبِيِّ الْقُحِّ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ ، فَإِذَا عَرَضْتَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَرْفَيِ الْإِحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ وَجَدْتَ فِيهِ مِنَ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ : ( الْأُولَى ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْحَجِّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ 22 : 52 ، ( وَالثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ ( ( الْقِتَالِ ) ) :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=20وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ 47 : 20 الْآيَةَ . . ( وَالثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ
آلِ عِمْرَانَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) ( 3 : 7 ) وَوَجَدْتَ الْإِحْكَامَ فِي كُلٍّ مِنْهُنَّ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا . وَقَدْ حَمَلَ الْمُقَلِّدُونَ الْمُحْكَمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمَنْسُوخَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ ، فَقَالُوا : سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ ، وَهَذَا الْحَمْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَحِيحًا ; فَإِنَّ هَذَا الِاصْطِلَاحَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ عُرْفِ الْقُرْآنِ ، بَلْ وُضِعَ بَعْدَ نُزُولِهِ ، وَالْآيَةُ الْأُولَى حُجَّةٌ عَلَى هَذَا ; فَإِنَّ النَّسْخَ فِيهَا غَيْرُ النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لَا كُلُّهَا وَلَا بَعْضُهَا ; لِأَنَّ إِنْزَالَ سُورَةٍ مَنْسُوخَةٍ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ ، فَلَا مَعْنَى إِذًا لِنَفْيِهِ ، وَحَمَلُوهُ فِي الثَّالِثَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمُتَشَابَهَ وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ فِيهِمَا مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ اللُّغَةِ وَلِلْمَرْوِيِّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ . قَالَ
السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي الْأَوَّلِ :
nindex.php?page=treesubj&link=28092الْمُحْكَمُ مَا أُحْكِمَ ، الْمُرَادُ بِهِ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ أَيِ التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ وَالنَّسْخِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : بِنَاءٌ مُحْكَمٌ ، أَيْ مُتْقَنٌ مَأْمُونُ الِانْتِقَاضِ ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=75إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وَالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْمُرَادُ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ النَّسْخَ فَهُوَ مُحْكَمٌ ، وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ التَّأْوِيلَ فَمُفَسَّرٌ ، وَإِلَّا فَإِنْ سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمُرَادِ فَنَصٌّ ، وَإِلَّا فَظَاهِرٌ ، وَإِذَا خَفِيَ لِعَارِضٍ أَيْ لِغَيْرِ الصِّيغَةِ فَخَفِيٌّ ،
[ ص: 5 ] وَإِنْ خَفِيَ لِنَفْسِهِ أَيْ لِنَفْسِ الصِّيغَةِ وَأُدْرِكَ عَقْلًا فَمُشْكِلٌ ، أَوْ نَقْلًا فَمُجْمَلٌ ، أَوْ لَمْ يُدْرَكْ أَصْلًا فَمُتَشَابِهٌ اهـ . وَقَالَ فِي الثَّانِي :
nindex.php?page=treesubj&link=28084الْمُتَشَابِهُ مَا خَفِيَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا يُرْجَى دَرْكُهُ أَصْلًا كَالْمُقَطَّعَاتِ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ ، وَقَالَ
التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ : وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَقَدْ يُطْلِعُ عَلَيْهِ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ ، اهـ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي .
وَقَالَ السَّيِّدُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=21294تَعْرِيفِ التَّأْوِيلِ : هُوَ فِي الْأَصْلِ التَّرْجِيحُ ، وَفِي الشَّرْعِ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ إِذَا كَانَ الْمُحْتَمَلُ الَّذِي يَرَاهُ مُوَافِقًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=95يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) ( 6 : 95 ) إِنْ أَرَادَ بِهِ إِخْرَاجَ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ كَانَ تَفْسِيرًا ، وَإِنْ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ أَوِ الْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ كَانَ تَأْوِيلًا ، اهـ . وَقَالَ
التَّاجُ السُّبْكِيُّ :
nindex.php?page=treesubj&link=21294الظَّاهِرُ مَا دَلَّ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً ، وَالتَّأْوِيلُ حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ ، فَإِنْ حُمِلَ لِدَلِيلٍ فَصَحِيحٌ ، أَوْ لِمَا يُظَنُّ دَلِيلًا فَفَاسِدٌ ، أَوْ لَا لِشَيْءٍ فَلَعِبٌ لَا تَأْوِيلٌ ، اهـ .
هَذَا الِاصْطِلَاحُ الْمُفَصِّلُ لِهَذِهِ الْحِكَايَاتِ فِيهِ مَا تَرَى - فِي كُتُبِ الْأُصُولِ - مِنْ قِيلَ وَقَالَ ، وَمَذَاهِبَ وَجِدَالٍ ، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ عِنْدَ قِرَاءَاتِهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - بَلْ كَانُوا يَفْهَمُونَهَا بِمَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ الْمَحْضِ ، فَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فِي الْآيَةِ فَقَدْ جَاءَ مُكَرَّرًا فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ عَشْرِ سُوَرٍ مَكِّيَّةٍ ، وَفِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ الْمَدَنِيَّةِ ، وَأَكْثَرُهَا فِي تَفْصِيلِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ ، وَبَعْضُهَا فِي تَفْصِيلِ الْكِتَابِ ، وَبَعْضٌ آخَرُ فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ ، وَنَوْعٌ آخَرُ أَعَمُّ وَهُوَ ( تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) أَيْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ ، وَإِصْلَاحِ أُمُورِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَكُلُّهَا دَاخِلٌ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي حَرَّرْنَاهُ .
بَقِيَ عَلَيْنَا الْمَأْثُورُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ ، وَهُوَ قَلِيلٌ مُخْتَصَرٌ ، فَعَنِ
ابْنِ زَيْدٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ( قَالَ ) : إِنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ مُحْكَمَةٌ ، وَإِنَّ التَّفْصِيلَ فِيهَا هُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ خَالَفَهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=24مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ ) ( 24 ) الْآيَةَ ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمَ
نُوحٍ وَقَوْمَ
هُودٍ ( قَالَ ) : فَكَانَ هَذَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ وَكَانَ أَوَّلُهُ مُحْكَمًا ، انْتَهَى .
بِالْمَعْنَى . وَحَاصِلُهُ : أَنَّ الْمُحْكَمَ الْمُجْمَلُ ، وَأَنَّ الْمُفَصَّلَ مَا يُقَابِلُهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِيهِمَا . وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أُحْكِمَتْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَفُصِّلَتْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَعَنْ
مُجَاهِدٍ : ثُمَّ فُصِّلَتْ ، قَالَ : فُسِّرَتْ ، وَعَنْ
قَتَادَةَ : أَحْكَمَهَا اللَّهُ مِنَ الْبَاطِلِ ثُمَّ فَصَّلَهَا اللَّهُ بِعِلْمِهِ ، فَبَيَّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ ، وَطَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ وَلَا تُحِيطُ بِهِ .
وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28386تَفْصِيلَ الْإِجْمَالِ فِي الْقُرْآنِ قِسْمَانِ : ( الْأَوَّلُ ) تَفْصِيلُ أُصُولِ الْعَقَائِدِ
[ ص: 7 ] وَكُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ ، وَأَكْثَرُهُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مُتَفَرِّقًا ثُمَّ مُجْمَلًا فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْهَا ، وَهُوَ الْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَيُونُسُ ، ( وَالثَّانِي ) مَا يَعُمُّ تَفْصِيلَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطِّوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَيْضًا .
nindex.php?page=treesubj&link=28982_28678 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=2أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ) ، هَذَا تَفْسِيرٌ أَوْ بَيَانٌ لِأَوَّلِ مَا أُحْكِمَتْ وَفُصِّلَتْ بِهِ وَلَهُ الْآيَاتُ : أَيْ بِأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، أَوْ لِئَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، وَهُوَ أَنْ تَجْعَلُوا عِبَادَتَكُمْ لَهُ وَحْدَهُ ، لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَهَذَا مَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي قِصَصِ الرُّسُلِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، وَيُؤَيِّدُ الْجَمْعَ بَيْنَ طَرَفَيِ التَّوْحِيدِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=treesubj&link=28982_31037 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=2إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) وَهُوَ تَبْلِيغٌ لِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ مُبَيِّنٌ لِوَظِيفَةِ الرَّسُولِ ، وَهِيَ إِنْذَارُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى شِرْكِهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ ، وَتَبْشِيرُ مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى بِالسَّعَادَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، وَقَدَّمَ الْإِنْذَارَ لِأَنَّ الْخِطَابَ وُجِّهَ أَوَّلًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَنَظِيرِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَسُورَةِ الْكَهْفِ ، وَالْمُبَلِّغُ هَذَا هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
nindex.php?page=treesubj&link=28982_20011 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ ، أَيْ وَأَنِ اسْأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْإِجْرَامِ وَالظُّلْمِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أَيْ ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ - عَنْهُ وَعَنْ آيَاتِهِ - يَعْرِضُ لَكُمْ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ ، نَادِمِينَ مُنِيبِينَ مُصْلِحِينَ لِمَا أَفْسَدْتُمْ ، مُسْتَدْرِكِينَ مَا قَصَّرْتُمْ ، عَطَفَ التَّوْبَةَ بِـ ( ثُمَّ ) لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْعَمَلِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقَوْلِ ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الذَّنْبِ ، وَسَيَأْتِي مَثَلُهُ فِي قِصَّةِ كُلٍّ مِنْ
هُودٍ ،
وَصَالِحٍ ،
وَشُعَيْبٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا ) الْمَتَاعُ : كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمَعِيشَةِ وَحَاجَةِ الْبُيُوتِ ، وَالْإِمْتَاعُ وَالتَّمْتِيعُ : إِعْطَاءُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ تَمَتُّعًا طَوِيلًا مُمْتَدًّا ، وَأَمَّا وَصْفُهُ - تَعَالَى - لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَتَمَتُّعِ أَهْلِهَا بِهَا بِالْقَلِيلِ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ ، وَالْمَعْنَى : إِنْ تَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عِنْدَ كُلِّ ذَنْبٍ ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْ هِدَايَتِهِ ، وَتَنَكُّبٍ عَنْ سُنَّتِهِ ، يُمَتِّعْكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا مُرْضِيًا مُمْتَدًّا (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) عِنْدَهُ وَهُوَ الْعُمُرُ الْمُقَدَّرُ لَكُمْ فِي عِلْمِهِ ، الْمَكْتُوبُ فِي نِظَامِ الْخَلِيقَةِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي عِبَادِهِ ، فَلَا يَقْطَعُهُ إِهْلَاكُكُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ ، وَلَا بِفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَسَلْبِ الِاسْتِقْلَالِ ، وَلَا يُنَغِّصُهُ كُلُّ مَا يُنَغِّصُ حَيَاةَ الْكُفَّارِ ، وَذَلِكَ أَنَّ لِتَنْغِيصِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَسَلْبِ النِّعَمِ مِنْ أَهْلِهَا أَسْبَابًا تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً إِلَّا لِأَنَّهَا ضَارَّةٌ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ ، أَوْ مُزِيلَةٌ لِلْحَيَاةِ أَوْ لِلْعَقْلِ أَوْ لِلصِّحَّةِ أَوْ لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْمَالِيِّ وَالْمَدَنِيِّ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَفْسَدَةً بِإِصْرَارِ فَاعِلِيهَا عَلَيْهَا ، فَإِذَا كَانَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ يَنْدَمُ وَيُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ قَرِيبٍ ، وَيُصْلِحُ مَا نَجَمَ مِنْ فَسَادِهَا بِالْعَمَلِ الْمُضَادِّ لَهُ ، امْتَنَعَ ذَلِكَ الْفَسَادُ وَزَالَ أَثَرُهُ ; وَلِهَذَا اشْتَرَطَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=19716التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ مَا اشْتَرَطَ
[ ص: 8 ] وَوُصِفَتْ فِي الْقُرْآنِ بِمَا وُصِفَتْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) ( 4 : 17 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=39فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ) ( 5 : 39 ) وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ أُخْرَى ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( 3 : 135 ) وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا .
وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ مُطَّرِدَةٌ فِي ذُنُوبِ الْأُمَمِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ ، وَهِيَ فِيهَا أَظْهَرُ مِنْهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ ( كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ ) فَالْأُمَمُ الَّتِي تُصِرُّ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ، يُهْلِكُهَا اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا بِالضَّعْفِ وَالشِّقَاقِ وَخَرَابِ الْعُمْرَانِ ، حَتَّى تَزُولَ مَنَعَتُهَا ، وَتَتَمَزَّقَ دَوْلَتُهَا ، فَتَنْقَرِضَ أَوْ تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا دَوْلَةٌ أُخْرَى ، فَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ مِنْ أَحْوَالِهَا الْعَامَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ ، وَأَمَّا أَقْوَامُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي عُصُورِهِمْ فَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْمُصِرِّينَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَذَابِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعِهَا ، وَأَقْرَبُهَا عَهْدًا أَوَاخِرُ سُورَةِ يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ نَجَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ أَيْضًا ، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ ( 100 - 103 ) الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا قَصَصُ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=treesubj&link=29468_28982 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) فَهُوَ عَامٌّ مُطْلَقٌ فِي جَزَاءِ الْأَفْرَادِ فِي الْآخِرَةِ ، مُقَيَّدٌ فِي جَزَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا ، وَمَعْنَاهُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ : إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْمِ
مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ ، إِنْ تَجْتَنِبُوا الشِّرْكَ وَتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ عَقِبَ كُلِّ ذَنْبٍ يَقَعُ مِنْكُمْ ، يُمَتِّعْكُمْ بِجُمْلَتِكُمْ وَمَجْمُوعِكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا تَكُونُونَ بِهِ خَيْرَ الْأُمَمِ نِعْمَةً وَقُوَّةً وَعِزَّةً وَدَوْلَةً ، وَيُعْطِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ جَزَاءَ فَضْلِهِ فِي الْآخِرَةِ مُطَّرِدًا كَامِلًا ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ جُزْئِيًّا نَاقِصًا ، وَمَشُوبًا لَا خَالِصًا ، وَلَا يَكُونُ عَامًّا كَامِلًا مُطَّرِدًا لِقِصَرِ أَعْمَارِ الْأَفْرَادِ ، وَالتَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ فِي سُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ ، وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ عَدْلُهُ - تَعَالَى - كَامِلًا شَامِلًا .
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي وَفَّقَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ يَظْهَرُ مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا مِنْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29674ثَمَرَةَ الدِّينِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كِلْتَيْهِمَا ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يُعَارِضُونَ أَمْثَالَ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا جَعَلُوهُ أَصْلًا يُرْجِعُونَهَا إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ ، كَأَحَادِيثِ ذَمِّ الدُّنْيَا وَتَسْمِيَتِهَا ( ( سِجْنَ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةَ الْكَافِرِ ) ) وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا كَهَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَحَدِيثِ ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920509أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ) ) وَهُوَ صَحِيحٌ
[ ص: 9 ] أَيْضًا ، وَالْبَلَاءُ الِاخْتِبَارُ - يَكُونُ فِي النِّعَمِ وَالنِّقَمِ ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ - يُظْهِرُ اسْتِعْدَادَ النَّاسِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ( 7 ) فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِمَّا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَبَلَّغُوهُ أَقْوَامَهُمْ وَصَدَّقَهُ الْوَاقِعُ ، فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي خِلَافَةِ الْأَرْضِ وَمِلْكِهَا وَنَعِيمِهَا مَا ثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْبِشَارَةُ ، وَيُقَابِلُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْإِنْذَارِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) أَيْ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا مُعْرِضِينَ عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَعَدَمِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ ، وَمِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٌ هَوْلُهُ ، شَدِيدٌ بَأْسُهُ ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَقْوَامَ الرُّسُلِ الَّذِينَ عَانَدُوهُمْ وَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ ، أَوْ مَا دُونَهُ مِنْ عَذَابِ الْمُصِرِّينَ ، فِي إِثْرِ نَصْرِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَهَذِهِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْقِصَصِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ الْكَبِيرِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْجَزَاءُ الْأَكْبَرُ ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=4إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ) أَيْ إِلَيْهِ - تَعَالَى - رُجُوعُكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ جَمِيعًا أُمَمًا وَأَفْرَادًا لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَتَلْقَوْنَ جَزَاءَكُمْ تَامًّا (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=4وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) وَمِنْهُ بَعْثُكُمْ وَحَشْرُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ .
قَدَّمَ وَصْفَ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ عَلَى وَصْفِهِ بِالْبَشِيرِ ، ثُمَّ قَدَّمَ بِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَخَّرَ إِنْذَارَ الْكَافِرِينَ الْمُصِرِّينَ تَأْلِيفًا لَهُمْ ; لِأَنَّ تَوَالِيَ الْإِنْذَارِ مُنَفِّرٌ مِنَ الِاسْتِمَاعِ ، مُغْرٍ بِالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ كَمَا تَرَى فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - :