ثم بين تعالى غاية الوعيد المشار إليه في الاسمين الكريمين فقال : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ) وقد غير الأسلوب بالالتفات عن الخطاب والأمر إلى الحكاية عن الزالين عن صراط الله بضمير الغائب . والحكمة في الالتفات تناول هذا الوعيد لجميع من زل من المؤمنين المخاطبين في الدخول في السلم والمنهيين عن ضده ومن زل من غيرهم ، أو هي الإيذان بأن الزالين لا يستحقون شرف الخطاب الإلهي .
الاستفهام في الآية بمعنى النفي ، وينظرون بمعنى ينتظرون ، وهي كثيرة الاستعمال بهذا المعنى في الكتاب العزيز ولا سيما في أمور الآخرة كقوله تعالى : ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ) ( 47 : 18 ) و ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة ) ( 36 : 49 ) وإتيان الله تعالى فسره ( الجلال ) وآخرون بإتيان أمره; أي : عذابه ، كقوله في آية أخرى : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ) ( 16 : 33 ) أي : فهو بمعنى ما جاء من التخويف بعذاب الآخرة في الآيات الكثيرة الموافقة لهذه الآيات في أسلوبها . وأقر الأستاذ الإمام ( الجلال ) على ذلك ، [ ص: 210 ] وبين في الدرس أن هذا الاستعمال من أساليب العرب المعروفة من حذف المضاف وإسناد الفعل إلى المضاف إليه مجازا ، وأوضحه أتم الإيضاح ، فهو على حد ( واسأل القرية ) ( 12 : 82 ) ومن المفسرين من قال : إن الإسناد حقيقي وإنما حذف المفعول للعلم به من الوعيد السابق; أي : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب ، وعده آخرون من المتشابهات فقالوا : إن الله تعالى يأتي بذاته ولكن لا كإتيان البشر ، بل إتيانه من صفاته التي لا نبحث عن كيفيتها اتباعا للسلف ، وأما تأويل الإتيان بما نقله البيهقي عن الأشعري فلا نذكره; لأنه مما يزيد المعنى بعدا عن الفهم .
وقد يقال : إنه ليس من مقتضى مذهب السلف أن يجعل كل ما يسند إلى الله تعالى من المتشابهات التي لا تفهم بحال ، ولا تفسر ولو بإجمال ، فحسبنا أن نقول على رأي من فسر إتيان الله هنا بإتيان أمره وما وعد به من العذاب ، أو إتيانه بما وعد به : إننا نفوض إليه تعالى كيفية ذلك ، وبذلك نكون على طريقة السلف في التفويض مع العلم بأن الله تعالى ينذر الذين زالوا عن صراطه وفرقوا دينه بأمر معروف في الجملة لا بشيء مجهول مطلق ، ومما يدلنا على أن المراد بالآية ما ذكرنا قوله تعالى : ( ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ) ( 25 : 25 ) مع الآيات الكثيرة الناطقة بأن قيام الساعة وخراب العالم يكون ( إذا السماء انشقت ) ( 84 : 1 ) وانتثرت كواكبها إلخ . وإنما يأتي بذلك الله تعالى بتغيير هذا النظام الذي وضعه لارتباط الكواكب وحفظ كل كوكب في فلكه ، وسيأتي لمذهب السلف في الإتيان توجيه أقرب من هذا .
وأما ظلل الغمام : فهي قطع السحاب الأول ، وهي جمع ظلة - بالضم - كغرف، جمع غرفة ، وهي ما أظلك ، والثاني جمع غمامة كسحاب وسحابة وزنا ومعنى ، سمي بذلك لأنه يغم السماء; أي : يسترها ، وخص بعضهم الغمام بالسحاب الأبيض ، وزاد بعض آخر الرقيق ، وفيه أن الأبيض الرقيق لا يمطر، والعرب تسمي البرد حب الغمام . وذكر المفسرون أن إتيان أمر الله أو عذابه في الغمام عبارة عن مجيئه من حيث ترجى الرحمة بالمطر ، وذلك أبلغ في تمثيل هول العذاب وفظاعته; لأن الخوف إذا جاء من موضع الأمن كان خطبه أعظم ، والعذاب إذا فاجأ من حيث ترجى الرحمة كان وقعه آلم ، كما وقع لعاد قوم هود ( قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ) ( 46 : 24 ) وهو مبني على أن الغمام مظنة المطر ، والظاهر أن من قال : إن الغمام هو السحاب الأبيض لا يعني به تلك السحائب البيض الرقاق المرتفعة التي تظهر في أيام الصيف ، وإنما أراد به ذلك السحاب المسف لثقله بالمطر الذي هو أقرب إلى البياض منه إلى السواد .
وقال الأستاذ الإمام : وإن الحكمة في نزول العذاب في الغمام إنزاله فجأة من غير تمهيد [ ص: 211 ] ينذر به ، ولا توطئة توطن النفوس على احتماله ، وذلك أبلغ في هوله ( ما من دهي بالأمر كالمعتد ) وهو ذلك الغمام الذي يحدث عن تخريب العالم فجأة، فيأتيهم العذاب قبل أن يتبدد الغمام الناشئ عن الخراب ، وهذا القول يتفق مع الأول وهو أقرب إلى معنى قوله تعالى في الساعة : ( لا تأتيكم إلا بغتة ) ( 7 : 187 ) .
ويجب أن تكون هذه الآيات عبرة للمؤمن ترغبه في ; لئلا يفاجئه وعد الله تعالى وهو غافل ، فإن لم يفاجئه قيام الساعة العامة التي بها يهلك هذا العالم كله فاجأه قيام قيامته بموته بغتة ، فإن لم يمت بغتة جاءه مرض الموت بغتة حتى لا يقدر على العمل ، وتدارك الزلل . المبادرة إلى التوبة
وإذا جرينا على هذه الطريقة التي أرشدتنا إليها الآية السابقة على الوجه الأول في تفسيرها فحملنا بعض الآيات على بعض واستخرجنا المعنى من مجموعها كان لنا أن نقول : إذا وقعت الواقعة ، وقرعت القارعة ، وكورت الشمس ، وتناثرت الكواكب ، وانشقت السماء شقا ، ورجت الأرض رجا ، وبست الجبال بسا ، فكانت أولا كالعهن المنفوش ثم صارت هباء منبثا ، فإن مادة هذا الكون تعود كما كانت قبل التكوين; أي : مادة سديمية، وهي ما عبر عنه في بدء التكوين بالدخان وفي الحكاية عن الخراب بالغمام . وإن كثيرا من علماء الهيئة الغربيين ليتوقعون خراب هذا العالم بقارعة تحدث من اصطدام بعض الكواكب ببعض بحيث تبطل الجذب العام الذي به قام هذا النظام ، وهو في معنى ما ورد من تشقق السماء بالغمام ، وهذا المعنى لم يكن يخطر ببال أحد على عهد نزول القرآن .
وأما هنا فهو بمعنى نزولهم في قوله : ( إتيان الملائكة ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ) ( 25 : 25 ) أي : وتأتيهم الملائكة الموكلة بكل ما قضاه الله يومئذ . وقوله : ( وقضي الأمر ) جملة حالية ، أي : كيف ينتظرون غير ذلك وهو أمر قضاه الله وأبرمه فلا مفر منه ( وإلى الله ترجع الأمور ) فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه ، فهو الأول ومنه بدأت الأشياء ، وهو الآخر وإليه ترجع وتصير ، وهو بكل شيء محيط ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ( 55 : 33 ، 34 ) .
وإذا كان كل ما سنه الله تعالى من النظام لخلقه حتما مقضيا لا يضل واضعه ولا ينسى ، فعلى من زل عن صراطه واتبع خطوات الشيطان أن يبادر بالتوبة والرجوع إلى الحق قبل أن يحيق به زلله ، ويبسله عمله ، وقبل أن تقوم قيامته ، أو قيامة الناس أجمعين فيجازى على زلله و ( كل امرئ بما كسب رهين ) ( 52 : 21 ) وأجدر الناس بالمبادرة إلى هذه التوبة علماء الأمة الذين أبسلوها [ ص: 212 ] بخلافهم وتفرقهم ، فعليهم أن يحكموا كتاب الله وسنة رسوله فيما شجر بينهم من غير تعصب ويسلموا تسليما .
وذكر الأستاذ الإمام في تفسير الآية وجها آخر يعد بيانا للقول بأن الإتيان مسند إلى الله تعالى على أنه هو الذي يأتي على ظاهر مذهب السلف لا عذابه ولا يومه الموعود ، وهو من الآيات الكبرى ، وأسرار المعارف العليا ، فقال ما مثاله :
من الناس من يؤمن بالله تعالى وصحة دينه إيمانا موافقا لما جاء في كتابه ، ويكون في إيمانه على حق اليقين والاطمئنان الذي لا زلزال فيه ولا اضطراب ، وأهل هذا اليقين هم الذين يقال إن الله حاضر عندهم وأنه معهم أينما كانوا; لأن معرفته ثبتت في عقولهم ، والتوكل عليه قد لابس قلوبهم ، وهم الذين قال قائلهم : لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا ، ومنهم من ليس له تلك المعرفة وهذا اليقين، فلا يقال إن الله عندهم; لأن ما حضر في عقله هو غير ما وصف الله تعالى به نفسه ، وشهدت به آياته في كتابه وآياته في خلقه ، ثم هو ليس على يقين مما عنده ، أولئك أصحاب الظنون وأرباب الشكوك ، وحملة التقاليد الذين زلوا من بعد ما جاءتهم البينات فاتخذوا بينهم وبين الله حجابا ووسطاء ، وشبهوه بخلقه في كثير من الشئون ، فهم غائبون عن الله تعالى ومحجوبون عن ربهم بحيث لا تطوف معرفته الحقيقة بعقولهم ، ولا تلابس عظمته وكماله قلوبهم ، فإذا كان يوم القيامة وكشف الحجاب عرفوا الله ربهم الحق ، وتبين لهم ما كانوا عليه من الباطل ، فذلك إتيان الله لهم; أي : يأتيهم من معرفته ما كانوا غائبين عنه ومحرومين منه في الدنيا ، والإتيان يكون في المعقولات كما يكون في المحسوسات ، فلا حاجة إلى التأويل .
إن هؤلاء الزالين عن صراط الله تعالى صنفان : صنف اعتقدوا الباطل حقا فلم يعرفوا حقيقة التوحيد ورجوع كل أمر إلى من أعطى كل شيء خلقه على سنن ثابتة ، ولا غير التوحيد من أصول الإيمان . وصنف اتبعوا الظن وهاموا في أودية الوهم ، فلم يكونوا على بينة من هذا الأمر ، فإذا ما تجلى الله تعالى في ذلك اليوم على الأرواح ، وزالت الحجب التي كانت دونها في سجن الأشباح زال جهل الجاهلين ، وانكشف ظن الظانين ، وبطل وهم الواهمين ، وعرف الجميع رب العالمين ، بما جاءهم من الحق اليقين ، فذلك مجيء الله تعالى وإتيانه في يوم الدين ، هذا ما تجلى به مسألة الإتيان على مذهب السلف .
وأما كون هذا الإتيان في ظلل من الغمام فهو من الأمور الأخروية الغيبية التي قلنا مرارا إننا لا نبحث عن حقيقتها ، فكون معرفة الله تعالى واليقين به مما يحصل للجاهلين والغافلين بحصول ظلل من الغمام نفوض سره إلى الله تعالى ، وما يدرينا أن في ذلك الغمام آيات بينات ، وحججا باهرات ، وإتيان الملائكة على هذا التأويل أظهر منه في التأويل الأول; لأن المقام [ ص: 213 ] مقام تمثيل ظهور سلطان الله تعالى وعظمته ، واستغراق القلوب في الخضوع لجلاله عندما يغشاها نور معرفته ، ولا ريب أن حضور الملك في جنده الأكبر ، هو أبين لكمال العظمة وأظهر; ولذلك قال في سورة الفجر : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) ( 89 : 22 ) وقال في سورة النبأ : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) ( 78 : 38 ) .
والمراد بهذا المعنى الذي قرره الأستاذ الإمام تقريب هذا المذهب من الأفهام ، ولا يعني أن هذا بيان لكيفية الإتيان في الغمام ، ويمكن أن يقال : إن الغمام في الآية إشارة إلى الحجاب أو الرداء الذي ورد في حديث أبي موسى عند الشيخين وغيرهما ( ( ) ) وبيانه أنه ورد في أحاديث أخرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ( وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه جبريل عليه السلام هل ترى ربك ؟ فقال : إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور ) ) . سألت
وقال وغيره من أئمة الصوفية : إن الحجب; أي : الموانع التي تمنع العبد من معرفة الحق كثيرة أكثفها نفسه ، وهذه الحجب تزال يوم القيامة عن المؤمنين إلا حجابا واحدا ، فيعرفون الحق معرفة كاملة تستغرق الروح . وذلك ما عبر عنه بالرؤية وبمجيء الله وإتيانه . الغزالي
فالغمام في هذا المقام التمثيلي إشارة إلى الحجاب الذي لا يحصل كمال المعرفة الممكنة بدونه، وبذلك تتفق الآيات مع الأحاديث ( ولله المثل الأعلى ) ( 16 : 60 ) و ( ليس كمثله شيء ) ( 42 : 11 ) .
ولنا أن نقول - على هذه الطريقة مع تفسيرنا الغمام بمادة التكوين الأولى كما مر - : إن الحجب - التي تشغل الإنسان عن ربه في الدنيا ؛ حظوظ النفس وشهواتها وشواغل الحس بالمحسوسات والفكر بالمدركات كلها - ترتفع فلا تعود حائلة دون كمال العلم بالله تعالى ، ما خلا سر الإيجاد والتكوين الأول ؛ مم كان ؟ وبم كان ؟ وكيف كان ؟ فهذا لا يرتفع في الدنيا للموقنين ، ولا في الآخرة للمقربين .
هذا، وأنت ترى أن الوجه الأول في تفسير الآية هو المتبادر والمنطبق على الآيات الأخرى في نذر القيامة ، وفي كل منهما عبرة وهداية للمؤمنين . وأما المرتابون الممارون فلا يزيدهم الكلام عن الآخرة إلا ظلمة ورجسا إلى رجسهم; لأنهم محجوبون في حسهم حتى عن نفسهم و ( كل حزب بما لديهم فرحون ) ( 23 : 53 ) .