( وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ) .
في هاتين الآيتين المنزلتين إرشاد إلى أنواع كثيرة من ، الدالة على قدرته على البعث والجزاء وكونه من مقتضى حكمته ، واطراد النظام التام في جميع خلقه ، وهذه الآيات تفصيل لما أجمل في الآية الثالثة في خلق السماوات والأرض ، واستواء الخالق على عرشه يدبر الأمر ، ويقيم النظام في الخلق ، التي سيقت للاستدلال على التوحيد وحقية الوحي . آيات الله الكونية
( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) الضياء : اسم مصدر من أضاء يضيء وجمع ضوء ، كسياط وسوط وحياض وحوض ، وقرأ ابن كثير : ( ضئاء ) على القلب بتقديم لام الكلمة على عينها . قال في القاموس وشرحه : ( الضوء ) هو النور ( ويضم ) وهما مترادفان عند أئمة اللغة ، وقيل : الضوء أقوى من النور قاله ، ولذا شبه الله هداه بالنور دون الضوء وإلا لما ضل أحد ، وتبعه الزمخشري الطيبي واستدل بقوله تعالى : ( جعل الشمس ضياء والقمر نورا وأنكره صاحب الفلك الدائر ، وسوى بينهما ، وحقق في الكشف أن الضوء فرع النور وهو الشعاع المنتشر ، وجزم ابن السكيت القاضي زكريا بترادفهما لغة بحسب الوضع ، وأن الضوء أبلغ بحسب الاستعمال ، وقيل : الضوء لما بالذات كالشمس والنار ، والنور لما بالعرض والاكتساب من الغير ، هذا حاصل ما قاله شيخنا رحمه الله تعالى ، وجمعه أضواء ( كالضواء والضياء بكسرهما ) لكن في نسخة لسان العرب ضبط الأول بالفتح والثاني بالكسر ، وفي التهذيب عن الليث : الضوء والضياء ما أضاء لك ، ونقل شيخنا عن المحكم أن الضياء يكون جمعا أيضا ، قلت : هو قول في تفسيره عند قوله تعالى : ( الزجاج كلما أضاء لهم مشوا فيه ) ( 2 : 20 ) اهـ .
[ ص: 248 ] وأقول : يدل على قوله تعالى : ( التفرقة بين الشمس والقمر في نورهما وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ) ( 71 : 16 ) وقوله : ( وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ) ( 25 : 61 ) والسراج ما كان نوره من ذاته . واستبعد بعض المفسرين قول : إن الضياء في الآية جمع ضوء ؛ لأن المناسب لكون القمر نورا أن يكون الضياء مفردا مثله . الزجاج
وجهل هذا المستبعد وأمثاله ما يعلمه الله تعالى من أن شعاع الشمس مركب من ألوان النور السبعة ، التي يراها الناس في قوس السحاب فهو سبعة أضواء لا ضوء واحد ، فهذا التعبير من مفردات القرآن الكثيرة التي كشف لنا ترقي العلوم الطبيعية والفلكية من المعنى فيها ما كان الناس أو العرب يجهلونه في عصر التنزيل ، كتعبيره عن كل نوع من النبات بأنه موزون ، وتقدم بيانه في مباحث الوحي .
وقدره منازل ، التقدير جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الزمان أو المكان أو الذوات أو الصفات ، قال تعالى : ( والله يقدر الليل والنهار ) ( 73 : 20 ) وقال في القرى التي كانت بين سبأ والشام : ( وقدرنا فيها السير ) ( 34 : 18 ) وقال في المقادير العامة : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) ( 25 : 2 ) والمنازل أماكن النزول جمع منزل والضمير للقمر كما في سورة يس : والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ( 36 : 39 ) أي قدر له أو قدر سيره في فلكه في منازل ينزل في كل ليلة في واحد منها لا يخطئه ولا يتخطاه ، وهي ثمانية وعشرون منزلا معروفة تسميها العرب بأسماء نجومها المحاذية لها وهي .
الشرطان . البطين . الثريا . الدبران . الهقعة . الهنعة . الذراع . النثرة . الطرف . الجبهة . الزبرة ، الصرفة . العواء . السماك الأعزل . الغفر . الزبانى . الإكليل . القلب . الشولة . النعائم . البلدة . سعد الذابح . سعد بلع . سعد السعود . سعد الأخبية . فرغ الدلو المقدم . فرغ الدلو المؤخر ( ويسميان الفرغ الأول والفرغ الثاني ) . الرشاء . ويراجع مسميات هذه الأسماء في معاجم اللغة وكتب الفلك من شاء . فهذه المنازل هي التي يرى فيها القمر بالأبصار ، ويبقى من الشهر ليلة إن كان 29 وليلتان إن كان 30 يوما يحتجب فيهما فلا يرى . ( لتعلموا عدد السنين والحساب ) أي لأجل أن تعلموا بما ذكر من صفة النيرين وتقدير المنازل حساب الأوقات من الأشهر والأيام ؛ لضبط عباداتكم ومعاملاتكم الدينية والمالية والمدنية ، فلولا هذا النظام المشاهد لتعذر على الأميين من أهل البدو والحضر العلم بذلك ؛ لأن فن لا يعلم إلا بالدراسة ، ولذلك جعل الشرع الإسلامي العام للبدو والحضر شهر الصيام وأشهر الحج وعدة الطلاق ومدة الإيلاء وغير ذلك بالحساب القمري الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة ، فلا يتوقف على علم فني لا يكاد يوجد إلا في بلاد الحضارة . ولعبادتي الصيام والحج حكمة أخرى وهي دورانهما في جميع الفصول ، فيعبد المسلمون ربهم في جميع [ ص: 249 ] الأوقات من حارة وباردة ومعتدلة . وهذا لا يمنع أهل العلم من الانتفاع بالحساب الشمسي وله فوائد أخرى ، وقد أرشدهم إليه في سورة الرحمن ( حساب السنين والشهور الشمسية الشمس والقمر بحسبان ) ( 55 : 5 ) وفي سورة الإسراء : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ( 17 : 12 ) وفي هذه الآيات ترغيب في علم الهيئة والجغرافية الفلكية وقد برع فيهما أجدادنا بإرشادها .
ثم قال : ( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) أي ما خلق الله الشمس ذات ضياء تفيض أشعتها على كواكبها التابعة لنظامها ، فتبث الحرارة والحياة في جميع الأحياء فيهن ، وجعل لكل ضوء منها من الخواص ما ليس للآخر ، ويبصر الناس فيها جميع المبصرات فيقومون بأمور معايشهم وسائر شئونهم ، وما خلق القمر ذا نور مستمد من الشمس تنتفع به السيارة في سراهم وغيرهم ، وقدره منازل يعرف بها جميع الناس السنين والشهور - ما خلق ذلك إلا متلبسا ومقترنا بالحق ، الذي تقتضيه الحكمة العامة لحياة الخلق ، ونظام معايشهم ومنافعهم ، فليس فيه عبث ولا خلل ، بل ظهر للبشر في هذا العصر من أسرار الضوء وحكمه ما صار به علما واسعا تحار العقول في نظمه وحكمه ، من أصغر ذراته إلى أعظم مجامع نيراته فكيف يعقل من هذا الخالق الحكيم ، أن يخلق هذا الإنسان في أحسن تقويم ، ويعلمه البيان ، ويعطيه ما لم يعط غيره في عالمه ، من الاستعداد لإظهار ما لا يحصى من حكمه وخواص خلقه ، وسننه في عباده ، ويجعل مدار سعادته وشقائه على ما أعطاه من علم وإرادة ، ثم يتركه بعد ذلك سدى ، يموت ويفنى ، ثم لا يبعث ولا يعود ؛ ليجزى المرتقون منه في معارج الكمال من المعارف الإلهية والفضائل النفسية والأعمال الصالحة بإيمانهم وصفاتهم وأعمالهم ، وليجزى المشركون الخرافيون ، والظالمون المجرمون بكفرهم وجرائمهم ومفاسدهم وإننا نرى كثيرا منهم أنعم في الدنيا معيشة من الصالحين المصلحين ؟ ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ) ( 68 : 35 و 36 ) و ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) ( 38 : 28 ) ؟ .
( يفصل الآيات لقوم يعلمون ) استئناف لبيان المنتفعين بهذه الحجج أي نبين الدلائل من حكم خلقنا ، على ما أوحيناه إلى رسولنا من أصول العقائد وأحكام الشرائع ، مفصلة منوعة من كونية وعقلية لقوم يعلمون وجوه دلالة الدلائل ، والفرق بين الحق والباطل ، باستعمال عقولهم في فهم هذه الآيات ، فيجزمون بأن من خلق هذين النيرين وما فيهما من النظام بالحق ، لا يمكن أن يكون خلقه لهذا الإنسان العجيب عبثا ، ولا أن يتركه سدى وفي الآية تنويه بفضل العلم وكون الإسلام دينا علميا لا تقليديا ، ولذلك قفى على هذه الآيات السماوية في الشمس والقمر بآية مذكرة بسائر الآيات السماوية والأرضية فقال :
[ ص: 250 ] إن في اختلاف الليل والنهار في حدوثهما وتعاقبهما في طولهما وقصرهما ؛ بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس والنظام الدقيق لهما بحركتيها اليومية والسنوية ، وطبيعة كل منهما وما يصلح فيه من نوم وسكون وعمل ديني ودنيوي وما خلق الله في السماوات والأرض من أنواع الجماد والنبات والحيوان لآيات لقوم يتقون أي أنواعا من الدلائل والبينات على سننه في النظام ، وحكمه في الإبداع والإتقان ، وفي تشريع العقائد والأحكام ، لقوم يتقون عواقب مخالفة سننه في التكوين ، وسننه في التشريع ، فالأفراد الذين يخالفون سنن الصحة البدنية يمرضون ، والشعوب التي تخالف سنن الاجتماع والعمران تخرب بلادها ، وتضعف دولها ، ويغير الله تعالى ما بها بتغييرها ما في أنفسها ، وكذلك الأفراد الذين يخالفون هدايته الشرعية في تزكية الأنفس فيدنسونها بالشرك والخرافات ، ويفسدونها بالفواحش والمنكرات ، يجزون على ذلك كله في الآخرة ، ويجزى بعضهم على بعضها في الدنيا ( كما بينا ذلك في مواضع أخرى ) .