المقصد الرابع
( الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي الذي يتحقق بالوحدات الثمان ) من مقاصد القرآن
وحدة الأمة - وحدة الجنس البشري - وحدة الدين - وحدة التشريع بالمساواة في العدل - وحدة الأخوة الروحية والمساواة في التعبد - وحدة الجنسية السياسية الدولية - وحدة القضاء - وحدة اللغة .
جاء الإسلام والبشر أجناس متفرقون ، يتعادون في الأنساب والألوان واللغات والأوطان والأديان ، والمذاهب والمشارب ، والشعوب والقبائل ، والحكومات والسياسات ، يقاتل كل فريق منهم مخالفه في شيء من هذه الروابط البشرية وإن وافقه في البعض الآخر ، فصاح الإسلام بهم صيحة واحدة دعاهم بها إلى الوحدة الإنسانية العامة الجامعة وفرضها عليهم ، ونهاهم عن التفرق والتعادي وحرمه عليهم ، وبيان هذا التفريق ومضاره بالشواهد التاريخية ، وبيان أصول الكتاب الإلهي وسنة خاتم النبيين في الجامعة الإنسانية ، لا يمكن بسطهما إلا بمصنف كبير ، فنكتفي في هذه الخلاصة الاستطرادية في إثبات الوحي المحمدي ، بسرد الأصول الجامعة في هذا الإصلاح الإنساني الداعي إلى جعل الناس ملة واحدة ، ودينا واحدا وشرعا واحدا ، وحكما واحدا ولسانا واحدا ، كما أن جنسهم واحد ، وربهم واحد .
ونبدأ بالأصل الجامع في هذا ونقفي عليه بالأصول والشواهد المفصلة له :
قال الله تعالى في سورة الأنبياء مخاطبا أمة الإسلام : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) ( 21 : 92 ) .
ثم بين لها في سورة ( ( المؤمنون ) ) أنه خاطب جميع النبيين بهذه الوحدة للأمة فقال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) ( 23 : 51 ، 52 ) ولكن كان لكل نبي أمة من الناس هم قومه ، وأما خاتم النبيين فأمته جميع الناس ، وقد فرض الله عليهم الإيمان بجميع رسله وعدم التفرقة بينهم كما تقدم ، فالإيمان بخاتمهم كالإيمان بأولهم وبمن بينهما ، فمثلهم كمثل الملوك أو الولاة [ ص: 211 ] في الدولة الواحدة ، ومثل اختلاف شرائعهم بنسخ المتأخر منها لما قبله كمثل تعديل القوانين في الدولة الواحدة أيضا إلى أن كمل الدين .
( الأصل الثاني ) . الوحدة الإنسانية بالمساواة بين أجناس البشر وشعوبهم وقبائلهم
وشاهده العام قوله تعالى : ( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ( 49 : 13 ) وقد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للأمة يوم العيد الأكبر بمنى في حجة الوداع . وهذه الوحدة الإنسانية تتضمن الدعوة إلى التآلف بالتعارف ، وإلى ترك التعادي بالتخالف .
( الأصل الثالث ) جاء بأصول الدين الفطري الذي جاء به غيره من الرسل ، وأكمل تشريعه بما يوافق جميع البشر ، وشاهده الأعم قوله تعالى : ( وحدة الدين باتباع رسول واحد قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) ( 7 : 158 ) ولما كان الإسلام دين الفطرة وحرية الاعتقاد والوجدان جعل الدين اختياريا بقوله تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ( 2 : 256 ) .
( الأصل الرابع ) بالعدل المطلق بين المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والملك والسوقة ، والغني والفقير ، والقوي والضعيف ، وسنذكر بعض شواهده في إصلاح التشريع فيه . وحدة التشريع بالمساواة بين الخاضعين لأحكام الإسلام في الحقوق المدنية والتأديبية
( الأصل الخامس ) ، في أخوته الروحية وعباداته ، وفي الاجتماع للاجتماعي منها كالصلاة ومناسك الحج ، فملوك المسلمين وأمراؤهم وكبار علمائهم يختلطون بالفقراء والعوام في صفوف الصلاة والطواف بالكعبة المشرفة والوقوف الوحدة الدينية بالمساواة بين المؤمنين بهذا الدين بعرفات وسائر مواطن الحج . لا تجد شعوب الإفرنج المنتسبين إلى النصرانية يرضون بمثل هذه المساواة المعلومة من دين الإسلام بالضرورة للعمل بها من أول الإسلام إلى اليوم ، قال تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ) ( 49 : 10 ) وقال في سياق الكلام عن المشركين المحاربين : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) ( 9 : 11 ) .
( الأصل السادس ) وحدة الجنسية السياسية الدولية ، بأن تكون جميع البلاد الخاضعة للحكم الإسلامي متساوية في الحقوق العامة ، إلا حق الإقامة في جزيرة العرب أو الحجاز فإنه خاص بالمسلمين ، لأن للحرمين وسياجهما من الجزيرة حكم المعابد والمساجد ، وحكم الإسلام في معابد الملل كلها أنها خاصة بأهلها ولها حرمتها لا يجوز لغير أهلها دخولها بغير إذن منهم ، المسلمون وغيرهم في هذا سواء .
( الأصل السابع ) إلا أنه مستثنى منه الأحكام الشخصية الدينية ، فإن الإسلام يراعي فيها حرية العقيدة والوجدان بناء على [ ص: 212 ] أساسه في ذلك ، فهو يسمح لغير المسلمين في أمور الزوجية أن يتحاكموا إلى علماء ملتهم وإذا تحاكموا إلينا فإننا نحكم بينهم بعدل شريعتنا الناسخة لشرائعهم ، والأصل فيه قوله تعالى ( وحدة القضاء واستقلاله ومساواة الناس فيها أمام الشريعة العادية فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) ( 5 : 42 ) وقوله بعد آيات : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) ( 5 : 48 ) .
( الأصل الثامن ) وحدة اللغة ، ولا يمكن أن يتم الاتحاد والإخاء بين الناس ، وصيرورة الشعوب الكثيرة أمة واحدة إلا بوحدة اللغة . ومازال الحكماء الباحثون في مصالح البشر العامة يتمنون لو يكون لهم لغة واحدة مشتركة ، يتعاونون بها على التعارف والتآلف ومناهج التعليم والآداب والاشتراك في العلوم والفنون والمعاملات الدنيوية ، وهذه الأمنية قد حققها الإسلام بجعل لغة الدين والتشريع والحكم لغة لجميع المؤمنين به والخاضعين لشريعته ، إذ يكون المؤمنون مسوقين باعتقادهم ووجدانهم إلى معرفة لغة كتاب الله وسنة رسوله ، لفهمهما والتعبد بهما والاتحاد بإخوتهم فيهما ، وهما مناط سيادتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، وبذلك كرر في القرآن بيان كونه كتابا عربيا وحكما عربيا ، وكرر الأمر بتدبره والتفقه فيه والاتعاظ والتأدب به ، وأما غير المؤمنين فيتعلمون لغة الشرع الذي يخضعون لحكمه ، والحكومة التي يتبعونها لمصالحهم الدنيوية كما هي عادة البشر في ذلك ، وكذلك كان الأمر في الفتوحات الإسلامية العربية كلها .
وقد بينت من قبل وجوب ، وكونه مجمعا عليه بين المسلمين كما قرره الإمام تعلم اللغة العربية في دين الإسلام - رضي الله عنه - في رسالته ، وقد جرى عليه العمل في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين ، ثم خلفاء الشافعي الأمويين والعباسيين ، إلى أن كثر الأعاجم وقل العلم وغلب الجهل ، فصاروا يكتفون من لغة الدين بما فرضه في العبادات من القرآن والأذكار ( فراجع ذلك في ص 264 وما بعدها ) ج 9 ط الهيئة .
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينكر على المسلمين كل نوع من أنواع التفرق ، الذي ينافي وحدتهم وجعلهم أمة واحدة كالجسد الواحد ؛ كما شبههم بقوله ( ( ) ) رواه مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى له عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى الإمام أحمد ومسلم من حديث - رضي الله عنه - وكان يخص بمقته وإنكاره التفرق في الجنس النسبي أو اللغة ، أما الأول فمشهور ، وأما الثاني فيجمعه مع الأول الشاهد الآتي . النعمان بن بشير
روى بسنده إلى الحافظ ابن عساكر مالك عن عن الزهري قال : [ ص: 213 ] أبي سلمة بن عبد الرحمن جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي ، وصهيب الرومي ، فقال : هذا وبلال الحبشي الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا ( يعني هذا المنافق بالرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنهم من قومه ، فما الذي يدعو الفارسي والرومي والحبشي إلى نصره ؟ ) .
فقام إليه - رضي الله عنه - فأخذ بتلبيبه ( أي بما على لببه ونحره من الثياب ) ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بمقالته ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مغضبا يجر رداءه حتى أتى المسجد ثم نودي : إن الصلاة جامعة - وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( يا أيها الناس إن الرب واحد ، والأب واحد ، وإن الدين واحد ، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم ، وإنما هي اللسان ، فمن تكلم بالعربية فهو عربي ) ) فقام معاذ بن جبل معاذ ، فقال : فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله ؟ قال : ( ( دعه إلى النار ) ) فكان قيس ممن ارتد في الردة فقتل .
أرأيت لو ظل المسلمون على هذه التربية المحمدية أكان وقع بينهم من الشقاق والحروب باختلاف الجنس واللغة كل ما وقع وأدى بهم إلى هذا الضعف العام ؟ أرأيت لو حافظوا على هذه الأخوة الإسلامية ، أكانت هذه الفئة من ملاحدة الترك تجد سبيلا لاجتثاث هذه الدوحة الباسقة من جنة حكم الإسلام ، وامتلاخ هذا السيف الصارم من غمده ، والحيلولة بينه وبين كتاب الله المعصوم المنزل من عند الله باللغة العربية ، وسنة رسوله المصلح لشعوب البشر وهي بالعربية ، لأجل تكوين هذا الشعب وما أدغم ويدغم فيه من الشعوب تكوينا جديدا ، برابطة لغة تخلق خلقا جديدا ، لأجل أن يلحق بالشعوب الأوربية دعيا ، كما يلصق الولد بغير أبيه إلصاقا فريا ، فيقال : إن رجلا عظيما جدد أو أوجد شعبا ولغة ودولة ودينا ؟ هيهات هيهات لما يبغون .
لقد كان هذا الشعب ( الترك ) قائما باسم الإسلام على رياسة روحية ، يدين لها أو بها زهاء أربعمائة مليون من البشر ، ولو أوتي من العلم والحكمة ما يحسن به القيامة ، ومن الحزم والعزم ما يعزز به القيادة ، ومن النظام ما يحكم به السياسة ، لأمكنه أن يسوس بها الشرق ثم يسود بنفوذها الغرب ، كما كان يقصد نابليون الكبير لو تم له البقاء في مصر .
يعترض بعض أولي النظر القصير والبصر الكليل على توحيد اللغة في الشعوب المختلفة [ ص: 214 ] بأنه خلاف طبيعية البشر ، ويرد عليهم بأن توحيد الدين أبعد من توحيد اللغة عن طبيعة البشر إن أريد بالبشر جميع أفرادهم ، وأن الحكماء ، ما زالوا يسعون لجمع البشر على لغة واحدة مشتركة مع علمهم أن ترقي بعض اللغات بترقي أهلها في العلوم والفنون والسياسة والقوة يستحيل معه أن يرغبوا عنها إلى غيرها ، ولم يسع أحد منهم لجمعهم على دين واحد ، وأن القرآن الذي شرع توحيد الدين مع شرعه ولغته لجميع البشر ، قد علمنا أن تدين بدين واحد ( حكمة الله تعالى في خلق الإنسان تأبى أن يكون الناس كلهم أمة واحدة ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) ( 11 : 118 ، 119 ) وإنما دعاهم إلى هذه الرحمة ليقل الشقاء الذي يثيره الخلاف فيهم - هذا الخلاف الذي جعل أعلم شعوب الأرض وأرقاهم في العمران يبذلون في هذا العهد أكثر ما تستغله شعوبهم من ثروة العالم في سبيل الحروب التي تنذر عمرانهم بالخراب والدمار .
دعا الإسلام البشر كلهم إلى دين واحد يتضمن توحيد اللغة وغيرها من مقومات الأمم ، فكانوا يدخلون فيه أفواجا ، حتى امتد في قرن واحد ما بين المحيط الغربي إلى الهند ، ولولا ما طرأ عليه من الابتداع ، وعلى حكوماته من الظلم والاستبداد ، وعلى شعوبه من الجهل والفساد ، والتفرق بالاختلاف ، لدخل فيه أكثر البشر ، ولصارت لغته لغة لكل من دخل في حظيرته من الأمم ، فمن غرائزهم اختيار الأفضل إذا عرفوه .
قال أحد كبار علماء الألمان في الأستانة لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة : إنه ينبغي لنا أن نقيم تمثالا من الذهب في ميدان كذا من عاصمتنا ( لمعاوية بن أبي سفيان برلين ) قيل له : لماذا ؟ قال : لأنه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب ، ولولا ذلك لعم الإسلام العالم كله ، ولكنا نحن الألمان وسائر شعوب أوربة عربا ومسلمين .
فهل يعقل أن يكون تقرير هذه الأصول التي توحد الأمم والشعوب ، وتؤلف بينها بما يجمع كلمتهم عليها بالوازع النفسي من الوحي النفسي الذي نبع من نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - الأمي في سن الكهولة ففاق بها جميع الأنبياء والحكماء ، أم الأقرب إلى العقل أن تكون بوحي الله تعالى أفاضه عليه ؟ ! .