محمد على نبوة من قبله : امتياز نبوة
فأنى تضاهئ هذه الأخبار ( النبوات ) ، وهي كما علمت - أنباء القرآن الكثيرة بالمغيبات كالذي بيناه في خلاصة تفسير السورة السابقة مما وقع من المنافقين وما هو في سورة الفتح .
وقوله تعالى في أول سورة الروم ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) الآيات ( 1 - 4 ) وقوله : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) ( 24 : 55 ) وأين هي من إنباء النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بأنهم سيفتحون بعده بلاد الشام وبلاد الفرس ومصر وسيستولون على ملك كسرى وقيصر حتى إنه سمى عصره باسمه كما رواه كسرى عن البخاري إلخ ؟ عدي بن حاتم
هذا ما يقال بالإجمال على أحد موضوعي النبوة وهو الإخبار عما سيكون في مستقبل [ ص: 125 ] الزمان ، فما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - منها في وحي القرآن وغيره أظهر وأوضح وأبعد عن احتمال التأويل ، وأعصى على إنكار المرتابين ، ويزيد عليه ما جاء به من أنباء الغيب الماضية ، وسأذكر ما يتأوله به الجاحدون للنبوة والوحي في بيان بطلان شبهتهم .
وأما الموضوع الثاني للنبوة وهو الأهم الأعظم أي عقائد الدين وعباداته وآدابه وأحكامه فالنظر فيه من وجهين ( أحدهما ) ما ذكروه من كونه لا يمكن أن يصل إليه عقل من جاء به وفكره ولا علومه ومعارفه الكسبية فيتعين أن يكون بوحي من الله ( وثانيهما ) أن يكون ما فيه من هداية الناس وصلاح أمورهم في دينهم ودنياهم أعلى في نفسه من معارف البشر في عصره ، فيتعين أن يكون وحيا .
فأما الأول الخاص بشخص الرسول فإن العاقل المستقل المفكر إذا عرف تاريخ محمد - صلى الله عليه وسلم - وتاريخ أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام فإنه يرى أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد نشأ أميا لم يتعلم القراءة ولا الكتابة ، وأن قومه الذين نشأ فيهم كانوا أميين وثنيين جاهلين بعقائد الملل وتواريخ الأمم وعلوم التشريع والفلسفة ، حتى إن مكة عاصمة بلادهم ، وقاعدة دينهم ، ومثوى كبرائهم ورؤسائهم ، ومثابة الشعوب والقبائل للحج والتجارة فيها ، والمفاخرة بالفصاحة والبلاغة في أسواقها التابعة لها ، لم يكن يوجد فيها مدرسة ولا كتاب مدون قط ، فما جاء به من الدين التام الكامل ، والشرع العام العادل ، لا يمكن أن يكون مكتسبا ولا أن يكون مستنبطا بعقله وفكره كما بيناه من قبل . وسندفع ما يرد من الشبهة عليه في القسم الثاني من هذا الفصل .
ويرى تجاه هذا أن موسى أعظم أولئك الأنبياء في عمله وفي شريعته وفي هدايته - قد نشأ في أعظم بيوت الملك لأعظم شعب في الأرض وأرقاه تشريعا وعلما وحكمة وفنا وصناعة ، وهو بيت فرعون مصر ، ورأى قومه في حكم هذا الملك القوي القاهر مستعبدين مستذلين ، تذبح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم ، تمهيدا لفنائهم ومحوهم من الأرض ، ثم إنه مكث بضع سنين عند حميه في مدين وكان نبيا - أو كاهنا كما يقولون - فمن ثم يرى منكرو الوحي أن ما جاء به موسى من الشريعة الخاصة بشعبه ليس بكثير على رجل كبير العقل عظيم الهمة ، ناشئ في بيت الملك والتشريع والحكمة إلخ .
ثم ظهر في أوائل هذا القرن الميلادي أن شريعة التوراة موافقة في أكثر أحكامها لشريعة حمورابي العربي ملك الكلدان الذي كان قبل موسى وقد قال الذين عثروا على هذه الشريعة من علماء الألمان في حفائر العراق أنه قد تبين أن شريعة موسى مستمدة منها لا وحي من الله تعالى كما شرحنا في مجلد المنار السادس وذكرنا خلاصته في تفسير سورة التوبة ( 9 : 30 ) وهو في ( ص 305 ج 10 ط الهيئة ) وأقل ما يقوله مستقل الفكر في ذلك : إنه إن لم تكن التوراة [ ص: 126 ] مستمدة منها فلا تعد أحق منها بأن تكون وحيا من الله تعالى ، ولم ينقل أن حمورابي ادعى أن شريعته وحي من الله تعالى .
ثم يرى الناظر سائر أنبياء العهد القديم أنهم كانوا تابعين للتوراة متعبدين بها ، وأنهم كانوا يتدارسون تفسيرها في مدارس خاصة بهم وبأبنائهم مع علوم أخرى ، فلا يصح أن يذكر أحد منهم مع محمد ، ويرى أيضا أن يوحنا المعمدان الذي شهد المسيح بتفضيله عليهم كلهم ولم يأت بشرع ولا بنبأ غيبي - بل إن عيسى عليه السلام وهو أعظمهم قدرا وأعلاهم ذكرا ، وأجلهم أثرا ، لم يأت بشريعة جديدة بل كان تابعا لشريعة التوراة مع نسخ قليل من أحكامها ، وإصلاح روحي أدبي لجمود اليهود المادي على ظواهر ألفاظها ، فأمكن لجاحدي الوحي أن يقولوا : إنه لا يكثر على رجل مثله زكي الفطرة ذكي العقل ناشئ في حجر الشريعة اليهودية ، والمدنية الرومانية . والحكمة اليونانية ، غلب عليه الزهد والروحانية ، أن يأتي بتلك الوصايا الأدبية ، ونحن المسلمين لا نقول هذا وإنما يقوله الماديون والملحدون والعقليون ، وألوف منهم ينسبون إلى المذاهب النصرانية .
وأما الوجه الثاني وهو عقائد الدين وعباداته وآدابه وأحكامه فلا يرتاب العقل المستقل المفكر غير المقلد لدين من الأديان في أن عقائد الإسلام : من توحيد الله وتنزيهه عن كل نقص ، ووصفه بصفات الكمال ، والاستدلال عليها بالدلائل العقلية والعلمية الكونية ، ومن بيان هداية رسله ، ومن عباداته وآدابه المزكية للنفس المرقية للعقل ، ومن تشريعه العادل وحكمه الشوري المرقي للاجتماع البشري - كل ذلك أرقى مما في التوراة والأناجيل وسائر كتب العهد القديم والجديد ، بل هو الإصلاح الذي بلغ به دين الله أعلى الكمال ، ويشهد بهذا علماء الإفرنج ، وقد شرحناه من وجهة نظرنا ووجهة نظرهم في مواضع من المنار التفسير ( آخرها ص 313 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .
ومن نظر في قصة آدم ونوح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ويوسف من سفر التكوين ، وسيرة موسى وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء في سائر أسفار العهد القديم ، ثم قرأ هذه القصص في القرآن يرى الفرق العظيم في الاهتداء بسيرة هؤلاء الأنبياء العظام ; ففي أسفار العهد القديم يرى وصف الله تعالى بما لا يليق به من الجهل والندم على خلق البشر والانتقام منهم ، ووصف الأنبياء أيضا بما لا يليق بهم من المعاصي مما هو قدوة سوأى ، من حيث يجد في قصص القرآن من حكمة الله تعالى ورحمته وعدله وفضله وسننه في خلقه ، ومن وصف أنبيائه ورسله بالكمال وأحاسن الأعمال ، ما هو قدوة صالحة وأسوة حسنة تزيد قارئها إيمانا وهدى ، فأخبار الأنبياء في كتب العهدين تشبه بستانا فيه كثير من الشجر والعشب والشوك ، والثمار والأزهار [ ص: 127 ] والحشرات ، وأخبارهم في القرآن تشبه العطر المستخرج من تلك الأزهار ، والعسل المشتار من تلك الثمار ، ويرى فيه رياضا أخرى جمعت جمال الكون كله .
وندع هنا ذكر ما كتبه علماء الإفرنج الأحرار في نقد هذه الكتب والطعن فيها ، ومن أخصرها وأغربها كتاب ( أضرار تعليم التوراة والإنجيل ) لأحد علماء الإنكليز ، وما فيها من مخالفة العلم والعقل والتاريخ ، والقرآن خال من مثل ذلك .