( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) .
هذه الآية من تتمة أحكام الجهاد بالقتال ، مع زيادة حكم ، الذي عليه مدار الدعوة إلى الإيمان وإقامة دعائم الإسلام ، وإنما جهاد السيف حماية وسياج . وسببها أن ما ورد في فضل الجهاد وثوابه وفي ذم القاعدين عنه وكونه من شأن المنافقين دون المؤمنين الصادقين قوى رغبة المؤمنين فيه حتى كانوا إذا أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إرسال سرية للقاء بعض المشركين وإن قلوا ينتدب لها جميع المؤمنين ويتسابقون إلى الخروج فيها ، ويدعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده أو مع نفر قليل كما ورد ، وإنما يجب هذا في النفير العام إذا وجد سببه بقدر الحاجة لا في كل استنفار لمقاومة الكفار ، على أن النفر العام قد يتعذر أو تكثر فيه الأعذار ، وقيل إنه لم يكن واجبا على عمومه إلا في عهده - صلى الله عليه وسلم - ، أو على الأنصار بمقتضى مبايعتهم له ( راجع ص 271 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) . طلب العلم والنفقة في الدين وهو آلة الجهاد بالحجة والبرهان
( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) أي ما كان شأن المؤمنين ولا مما يجب عليهم ويطلب منهم ، أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد ، فإن هذه السرايا من فروض الكفاية لا من فروض الأعيان ، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للخروج ( فلولا نفر من كل فرقة ) لولا حرف تحضيض وحث على ما تدخل عليه : أي فهلا نفر للقتال من كل فرقة كبيرة ( منهم ) كالقبيلة أو أهل المدينة ، ( طائفة ) أي جماعة بقدر الحاجة [ ص: 63 ] ( ليتفقهوا في الدين ) أي ليتأتى لهم أي المؤمنين في جملتهم بأن يتكلف الباقون في التفقه في الدين المدينة الفقاهة في الدين بما يتجدد نزوله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الآيات ، وما يجري عليه - صلى الله عليه وسلم - من بيانها بالقول والعمل ، فيعرف الحكم مع حكمته ، ويفصل العلم المجمل بالعمل به ، ( ولينذروا قومهم ) الذين نفروا للقاء العدو ( إذا رجعوا إليهم ) أي يجعلوا جل همهم من الفقاهة بأنفسهم إرشاد هؤلاء وتعليمهم ما علموا ، وإنذارهم عاقبة الجهل ، وترك العمل بالعلم ( لعلهم يحذرون ) أي رجاء أن يخافوا الله ويحذروا عاقبة عصيانه ; ويكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته ، وإقامة حجته ، وتعميم هدايته ، فهذا ما يجب أن يكون غاية العلم والتفقه في الدين والغرض منه لا الرياسة والعلو بالمناصب ، والتكبر على الناس وطلب المنافع الشخصية منهم .
والآية تدل على وجوب والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم ، ويكونون به هداة لغيرهم ، وأن المتخصصين لهذا التفقه بهذه النية ، لا يقلون في الدرجة عند الله عن المجاهدين بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله والدفاع عن الملة والأمة . بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع فرضا عينيا ، والدلائل على هذا كثيرة ، وما قاله بعض الأصوليين من دلالة الآية على الاحتجاج بخبر الواحد متكلف بعيد عن معنى النظم الكريم ، ومبني على أن لفظ طائفة يطلق على الواحد كما قيل وهو باطل . تعميم العلم والتفقه في الدين
كنت أطلب العلم في طرابلس وكان حاكمها الإداري ( المتصرف ) فيها مصطفى باشا بابان من سروات الكرد ، وكان من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعية ، وقد قال لي مرة في دارنا بالقلمون : لماذا تستثني الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من خدمة العسكرية وهي واجبة شرعا وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب ؟ - يعرض بي - أليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع ؟ فقلت له على البداهة بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم وتلوت الآية ، فاستكثر الجواب على مبتدئ مثلي لم يقرأ التفسير وأثنى ودعا . وقد تعارضت الروايات المأثورة في هذه الآية فاختلفت الأقوال في تفسيرها ، والحق فيها ما قلنا وعليه الجمهور .
أخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن - رضي الله عنه - قال نسخ هؤلاء الآيات : ( ابن عباس انفروا خفافا وثقالا ) ( 9 : 41 ) - ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) ( 9 : 39 ) قوله : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) يقول لتنفر طائفة ولتمكث طائفة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالماكثون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو لعلهم يحذرون ما نزل من بعدهم من قضاء الله في كتابه وحدوده .
[ ص: 64 ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في المدخل عنه في الآية : يعني ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده - فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يعني عصبة يعني السرايا فلا يسيرون إلا بإذنه . فإذا رجعت السرايا وقد نزل قرآن تعلمه القاعدون من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا إن الله أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمناه ، فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بعدهم ، ويبعث سرايا أخر ، فذلك قوله : ( ليتفقهوا في الدين ) يقول يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم ( لعلهم يحذرون ) .
فأما قوله في الرواية الأولى بأن هذه الآية نسخت آيات النفير العام فهو قد يوافق إطلاق السلف في النسخ ومنه عندهم تخصيص العام وتقييد المطلق ، ولا يصح هنا النسخ المصطلح عليه في أصول الفقه ; لأن موضع النفير الخاص غير موضع النفير العام ، فلا تنافي بين الأحكام . وبهذا يقول جمهور العلماء .
وأخرج عن ابن جرير أنه جعل الضمير في قوله تعالى : ( الحسن البصري ليتفقهوا في الدين ) للطائفة التي تنفر للغزو لا للتي تبقى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وذلك قوله : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم . وزعم : أن هذا القول أولى بالصواب ، وأوضح ذلك بأن هذه الطائفة النافرة تتفقه بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به ، فيفقه بذلك من معاينة حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه . الطبري
( ولينذروا قومهم ) فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا ممن ظفر به المسلمون من أهل الشرك ( إذا ) هم ( رجعوا إليهم ) من غزوهم ( لعلهم يحذرون ) يقول لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروهم خبرهم ا هـ .
وهذا تأويل متكلف ينبو عنه النظم الكريم ; فإن اعتبار طائفة السرية بما قد يحصل لها من النصر - وهو غير مضمون ولا مطرد - لا يسمى تفقها في الدين وإن كان يدخل في عموم معنى الفقه ، فإن التفقه هو : التعلم الذي يكون بالتكلف والتدرج والمتبادر من الدين علمه ، ولا يصح هذا المعنى في ذلك العهد إلا في الذين يبقون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيزدادون كل يوم علما وفقها بنزول القرآن كما تقدم آنفا في تفسير : ( وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ) ( 9 : 97 ) وما يأتي قريبا فيما ينزل من السور فيزداد به الذين آمنوا إيمانا . وأخذ بعضهم من قول الحسن أنه يشمل السفر لأجل طلب العلم لما في الرحلة من أسباب زيادة الاستفادة بالانقطاع للعلم ولقاء أساطينه ، وعلل بعضهم فضيلة السياحة بذلك كما تقدم قريبا .
[ ص: 65 ] وقد بينا معنى الفقه في عرف اللغة واستعمال القرآن ، وأنه أخص من العلم بفروع الأحكام ، وحققناه بشواهد الآيات في تفسير ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) ( 7 : 179 ) ( 352 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) .