( صم بكم عمي فهم لا يعقلون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء )
بعدما بين تعالى فساد ما عليه المقلدون من اتباع ما وجدوا عليه آباءهم من غير نظر ولا استدلال ، وضرب لهم مثلا زيادة في تقبيح شأنهم ، والزراية عليهم ، بقوله : ( ومثل الذين كفروا ) أي : صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم ( كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ) أي : كصفة الراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء وزجرها عن الحمى فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار ، شبه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل ، ويزجرها فتنزجر ، وهي لا تعقل مما يقول شيئا ولا تفهم له معنى ، وإنما تسمع أصواتا تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد ، ولا تعقل سببا للإقبال ولا للإدبار ، ومعنى المثل هنا - كما قال - أن صفة الكفار وشأنهم كشأن الناعق بالغنم ، ولا يقتضي هذا أن يكون كل جزء من المشبه كمقابله من المشبه به ، وهو ما سماه علماء البيان بعد سيبويه بالتمثيل ، وفرقوا بينه وبين تشبيه متعدد بمتعدد ، والكفر جحود الحق والإعراض عن النظر في الدليل عليه عند الدعوة إليه ، وفرق بينه وبين الضلال ، فإن الضال من أخطأ طريق الحق مع طلبه أو جهله فلم يعرفه بنفسه ولا بدلالة غيره . وأما الكافر فهو يرى الحق ويعرض عنه ، ويصرف نفسه عن دلائله وآياته فلا ينظر فيها ، فهو كالحيوان يرضى بألا يكون له فهم ولا علم ، بل يقوده غيره ويصرفه كيف شاء ، فهو مع من قلدهم من الرؤساء كالغنم مع الراعي تقبل بدعائه وتنزجر بندائه ، مسخرة لإرادته وقضائه ، ولا تفهم لماذا دعا ولماذا زجر ؟ فدعوتها إلى الرعي وإلى الذبح سواء . وكذلك شأن كل من يسلم اعتقادا بلا دليل ، ويقبل تكليفا بغير فقه ولا تعليل . سيبويه
[ ص: 77 ] والآية صريحة في أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين ، وأن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به . فمن ربي على التسليم بغير عقل ، والعمل - ولو صالحا - بغير فقه ، فهو غير مؤمن ، لأنه ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان ، بل القصد منه أن يرتقي عقله وتتزكى نفسه بالعلم بالله والعرفان في دينه ، فيعمل الخير ; لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضي لله ، ويترك الشر ; لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته في دينه ودنياه ، ويكون فوق هذا على بصيرة وعقل في اعتقاده ، فلا يأخذه بالتسليم لأجل آبائه وأجداده ، ولذلك وصف الله الكافرين بعد تقرير المثل بأنهم ( صم ) لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم ( بكم ) لا ينطقون به عن اعتقاد وعلم ( عمي ) لا ينظرون في آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق حتى يتبين لهم أنه الحق ( فهم لا يعقلون ) مبدأ ما هم فيه ولا غايته كما يطلب من الإنسان ، وإنما ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان ، ولذلك اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون ، فالعاقل لا يقلد عاقلا مثله ، فأجدر به ألا يقلد جاهلا ضالا هو دونه .