قوله : ولقد عهدنا إلى آدم أي : أوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة . وهذا العهد إلى آدم الذي أجمله هنا بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " البقرة " : وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ 2 \ 35 ] ، فقوله : ولا تقربا هذه الشجرة هو عهده إلى آدم المذكور هنا .
وقوله في " الأعراف " : ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ 7 \ 19 ] ، .
وقوله تعالى : فنسي فيه للعلماء وجهان معروفان : أحدهما : أن المراد بالنسيان الترك ، فلا ينافي كون الترك عمدا . والعرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدا ، ومنه قوله تعالى : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] ، فالمراد في هذه الآية : الترك قصدا . وكقوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، [ ص: 104 ] وقوله تعالى : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون [ 32 \ 14 ] ، وقوله تعالى : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون [ 59 \ 19 ] ، وقوله تعالى : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 45 \ 34 ] . وعلى هذا فمعنى قوله : فنسي أي : ترك الوفاء بالعهد ، وخالف ما أمره الله به من ترك الأكل من تلك الشجرة ، لأن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده .
والوجه الثاني : هو أن المراد بالنسيان في الآية : النسيان الذي هو ضد الذكر ، لأن إبليس لما أقسم له بالله أنه له ناصح فيما دعاه إليه من الأكل من الشجرة التي نهاه ربه عنها غره وخدعه بذلك ، حتى أنساه العهد المذكور . كما يشير إليه قوله تعالى : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ 7 \ 21 - 22 ] ، . وعن رضي الله عنهما قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي رواه عنه ابن عباس ا ه . ولقد قال بعض الشعراء : ابن أبي حاتم
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب
أما على القول الأول فلا إشكال في قوله : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] ، وأما على الثاني ففيه إشكال معروف . لأن الناسي معذور فكيف يقال فيه وعصى آدم ربه فغوى .
وأظهر أوجه الجواب عندي عن ذلك : أن آدم لم يكن معذورا بالنسيان . وقد بينت في كتابي ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) الأدلة الدالة على أن العذر بالنسيان والخطأ والإكراه من خصائص هذه الأمة . كقوله هنا فنسي مع قوله وعصى فأسند إليه النسيان ، والعصيان ، فدل على أنه غير معذور بالنسيان . ومما يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس : وأبي هريرة ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، قال الله نعم قد فعلت . فلو كان ذلك معفوا عن جميع الأمم لما كان لذكره على سبيل الامتنان وتعظيم المنة عظيم موقع . ويستأنس لذلك بقوله : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ كما حملته على الذين من قبلنا [ 2 \ 286 ] ، ويؤيد ذلك حديث : " " . فقوله " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان وما استكرهوا عليه " يدل على الاختصاص بأمته . وليس مفهوم لقب . لأن مناط [ ص: 105 ] التجاوز عن ذلك هو ما خصه الله به من التفضيل على غيره من الرسل . تجاوز لي عن أمتي
والحديث المذكور وإن أعله ، الإمام أحمد فله شواهد ثابتة في الكتاب ، والسنة . ولم يزل علماء الأمة قديما وحديثا يتلقونه بالقبول . ومن الأدلة على ذلك حديث وابن أبي حاتم المشهور في الذي طارق بن شهاب وصاحبه الذي امتنع من تقريب شيء للصنم ولو ذبابا قتلوه . فدل ذلك على أن الذي قربه مكره . لأنه لو لم يقرب لقتلوه كما قتلوا صاحبه ، ومع هذا دخل النار فلم يكن إكراهه عذرا . ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى عن أصحاب الكهف : دخل النار في ذباب قربه مع أنه مكره إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا [ 18 \ 20 ] ، فقوله : يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم دليل على الإكراه ، وقوله : ولن تفلحوا إذا أبدا دليل على عدم العذر بذلك الإكراه . كما أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع .
واعلم أن في شرعنا ما يدل على نوع من التكليف بذلك في الجملة ، كقوله تعالى : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة الآية [ 4 \ 92 ] . فتحرير الرقبة هنا كفارة لذلك القتل خطأ . والكفارة تشعر بوجود الذنب في الجملة . كما يشير إلى ذلك قوله في خطأ كفارة القتل فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما [ 4 \ 92 ] ، فجعل صوم الشهرين بدلا من العتق عند العجز عنه . وقوله بعد ذلك توبة من الله يدل على أن هناك مؤاخذة في الجملة بذلك الخطأ ، مع قوله : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به [ 33 \ 5 ] ، وما قدمنا من حديث مسلم : لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، قال الله نعم قد فعلت ، فالمؤاخذة التي هي الإثم مرفوعة ، والكفارة المذكورة . قال بعض أهل العلم : هي بسبب التقصير في التحفظ ، والحذر من وقوع الخطأ ، والنسيان ، والله جل وعلا أعلم . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 122 ] ، هو ونحوه من الآيات مستند من قال من أهل الأصول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر التي لا تتعلق بالتبليغ . لأنهم يتداركونها بالتوبة ، والإنابة إلى الله حتى تصير كأنها لم تكن .
واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ . واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافا مشهورا معروفا في الأصول . ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع [ ص: 106 ] منهم بعض الشيء فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله حتى يبلغوا بذلك درجة أعلا من درجة من لم يقع منه ذلك . كما قال هنا : عصمة الأنبياء وعصى آدم ربه فغوى ثم أتبع ذلك بقوله : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 122 ] ، .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] ، يدل على أن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من الرسل الذين قال الله فيهم فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ 46 \ 35 ] ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : هم جميع الرسل . وعن ، ابن عباس وقتادة ولم نجد له عزما أي : لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة ومواظبة على التزام الأمر .
وأقوال العلماء راجعة إلى هذا ، والوجود في قوله : ولم نجد قال أبو حيان في البحر : يجوز أن يكون بمعنى العلم ، ومفعولاه له عزما وأن يكون نقيض العدم . كأنه قال : وعند مناله عزما ا ه منه . والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .