[ ص: 77 ]
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
( ومدرارا ) على هذا حال من نفس ( السماء ) . وقيل : ( السماء ) هنا السحاب ، ويوصف بالمدرار ، فـ ( مدرارا ) حال منه ( ومدرارا ) يوصف به المذكر والمؤنث ، وهو للمبالغة في اتصال المطر ودوامه وقت الحاجة ، إلا أنها ترفع ليلا ونهارا ، فتفسد ، قاله . ولأن هذه الأوصاف إنما ذكرت لتعديد النعم عليهم ومقابلتها بالعصيان ( ابن الأنباري وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ) تقدم ذكر كيفية جريان الأنهار من التحت في أوائل البقرة . وقد أغرب من فسر ( الأنهار ) هنا بالخيل ، كما قيل : في قوله : ( وهذه الأنهار تجري من تحتي ) وإذا كان الفرس سريع العدو واسع الخطو ، وصف بالبحر وبالنهر ، والمعنى أنه تعالى مكنهم التمكين البالغ ، ووسع عليهم الرزق ، فذكر سببه ، وهو تتابع الأمطار على قدر حاجاتهم ، وإمساك الأرض ذلك الماء حتى صارت الأنهار تجري من تحتهم ، فكثر الخصب ، فأذنبوا ، فأهلكوا بذنوبهم . والظاهر أن الذنوب هنا ، هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله وآياته ، والإهلاك هنا لا يراد به مجرد الإفناء والإماتة ، بل المراد الإهلاك الناشئ عن الذنوب ، والأخذ به كقوله تعالى : ( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ) لأن الإهلاك بمعنى الإماتة مشترك فيه الصالح والطالح ، وفائدة ذكر إنشاء قرن ( آخرين ) بعدهم ، إظهار القدرة التامة على إفناء ناس ، وإنشاء ناس ، فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك ( قرنا ) ، ويخرب بلاده ، وينشئ مكانه آخر يعمر بلاده ، وفيه تعريض للمخاطبين بإهلاكهم ، إذا عصوا ، كما أهلك من قبلهم ، ووصف قرنا ( بآخرين ) وهو جمع ، حملا على معنى قرن ، وكان الحمل على المعنى أفصح; لأنها فاصلة رأس آية .( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) سبب نزولها اقتراح عبد الله بن أبي أمية ، وتعنته ، إذ قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ، ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أمية ، يأمرني بتصديقك . وما أراني مع هذا كنت أصدقك . ثم أسلم بعد ذلك ، وقتل شهيدا بالطائف . ولما ذكر تعالى تكذيبهم بالحق لما جاءهم ، ثم وعظهم ، وذكرهم بإهلاك القرون الماضية بذنوبهم ، ذكرهم مبالغتهم في التكذيب ، بأنهم لو رأوا كلاما مكتوبا ( في قرطاس ) ومع رؤيتهم جسوه بأيديهم ، لم تزدهم الرؤية واللمس إلا تكذيبا ، وادعوا أن ذلك من باب السحر ، لا من باب المعجز عنادا وتعنتا ، وإن كان من له أدنى مسكة من عقل ، لا ينازع فيما أدركه بالبصر عن قريب ، ولا بما لمسته يده . وذكر اللمس لأنهم لم يقتصروا على الرؤية; لئلا يقولوا سكرت أبصارنا . ولما كانت المعجزات مرئيات ومسموعات ، ذكر الملموسات مبالغة في أنهم لا يتوقفون في إنكار هذه الأنواع كلها ، حتى إن الملموس باليد هو عندهم مثل المرئي بالعين والمسموع بالأذن . وذكر اليد هنا ، فقيل مبالغة في التأكيد; ولأن اليد أقوى في اللمس من غيرها من الأعضاء . وقيل : الناس منقسمون إلى بصراء ، وأضراء ، فذكر الطريق الذي يحصل به العلم للفريقين . وقيل : علقه باللمس باليد; لأنه أبعد عن السحر . وقيل : اللمس باليد مقدمة الإبصار ، ولا يقع مع التزوير . وقيل : اللمس يطلق ، ويراد به الفحص عن الشيء ، والكشف عنه ، كما قال : ( وأنا لمسنا السماء ) ، فذكرت اليد حتى يعلم أنه ليس المراد به ذلك اللمس . وجاء ( لقال الذين كفروا ) لأن مثل هذا الغرض يقتضي انقسام الناس إلى مؤمن وكافر ، فالمؤمن يراه من أعظم المعجزات ، والكافر يجعله من باب السحر . ووصف السحر بـ ( مبين ) إما لكونه بينا في نفسه ، وإما لكونه أظهر غيره .
( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ) قال : [ ص: 78 ] قال ابن عباس النضر بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خالد : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة ، يشهدون أنه من عند الله ، وأنك رسوله انتهى . والظاهر أن قوله : ( وقالوا ) استئناف إخبار من الله ، حكى عنهم أنهم قالوا ذلك ، ويحتمل أن يكون معطوفا على جواب ( لو ) أي : ( لقال الذين كفروا ) ، ولقالوا : ( لولا أنزل عليه ملك ) ، فلا يكون إذ ذاك هذان القولان المرتبان على تقدير إنزال الكتاب ( في قرطاس ) واقعين; لأن التنزيل لم يقع ، وكان يكون القول الثاني غاية في التعنت . وقد أشار إلى هذا الاحتمال أبو عبد الله بن أبي الفضل ، قال : في الكلام حذف ، تقديره : ولو أجبناهم إلى ما سألوا ، لم يؤمنوا ، ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ) وظاهر الآية يقتضي أنها في كفار العرب ، وذكر بعض الناس أنها في أهل الكتاب ، والضمير في ( عليه ) عائد على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والمعنى ( ملك ) نشاهده ، ويخبرنا عن الله تعالى بنبوته وبصدقه . و ( لولا ) بمعنى هلا للتحضيض ، وهذا قول من تعنت ، وأنكر النبوات .
( ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ) أي ( ولو أنزلنا ) عليه ( ملكا ) يشاهدونه ، لقامت القيامة ، قاله مجاهد . وقال ابن عباس وقتادة والسدي : في الكلام حذف ، تقديره : ( ولو أنزلنا ملكا ) ، فكذبوه ، ( لقضي الأمر ) بعذابهم ، ولم يؤخروا حسب ما سلف في كل أمة . وقالت فرقة : معنى ( لقضي الأمر ) لماتوا من هول رؤية الملك في صورته . ويؤيد هذا التأويل ، ( ولو جعلناه ملكا ) إلى آخره ، فإن أهل التأويل مجمعون على أنهم لم يكونوا ليطيقوا رؤية الملك في صورته . وقال ابن عطية : فالأولى في ( لقضي الأمر ) أي لماتوا من هول رؤيته . وقال : لقضي أمر إهلاكهم . الزمخشري
( ثم لا ينظرون ) بعد نزوله طرفة عين ، إما لأنهم إذا عاينوا الملك ، قد نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في صورته ، وهي أنه لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لا يؤمنون كما قال ، ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، لم يكن بد من إهلاكهم كما أهلك أصحاب المائدة ، وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة ، فيجب إهلاكهم ، وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته ، زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون انتهى . والترديد الأول بإما ، قول ، والثالث قول تلك الفرقة . وقوله : كما أهلك أصحاب المائدة; لأنهم عنده كفار ، وقد تقدم الكلام فيهم في أواخر سورة العقود ، وذكر ابن عباس أبو عبد الله الرازي الأوجه الثلاثة التي ذكرها ببسط فيها . وقال الزمخشري التبريزي في معنى ( لقضي الأمر ) قولان : أحدهما; لقامت القيامة لأن الغيب يصير عندها شهادة عيانا ، الثاني; الفزع من إهلاكهم; لأن السنة الإلهية جارية في إنزال الملائكة بأحد أمرين : الوحي ، أو الإهلاك ، وقد امتنع الأول ، فيتعين الثاني انتهى . فعلى هذا القول يكون معنى قوله : ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ) أي بإهلاكنا . قال : ومعنى ( ثم ) بعدما بين الأمرين قضاء الأمر ، وعدم الإنظار جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر; لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة انتهى . الزمخشري
( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) أي ولجعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا; لأنهم كانوا يقولون : لولا أنزل على محمد ملك ، وتارة يقولون : ما هذا إلا بشر مثلكم ، ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ، ومعنى ( لجعلناه رجلا ) أي لصيرناه في صورة رجل ، كما كان جبريل ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في غالب الأحوال في صورة دحية ، وتارة ظهر له وللصحابة في صورة رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه أحد من الصحابة . وفي الحديث : ، وكما تصور " وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا " جبريل لمريم بشرا سويا ، والملائكة أضياف إبراهيم ، وأضياف لوط ومتسور والمحراب ، فإنهم ظهروا بصورة البشر ، وإنما كان يكون بصورة رجل; لأن الناس لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن [ ص: 79 ] زيد ، ويؤيده هلاك الذي سمع صوت ملك في السحاب يقول : أقدم حيزوم ، فمات لسماع صوته ، فكيف لو رآه في خلقته ؟ قال ابن عطية : ولا يعارض هذا برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لجبريل وغيره في صورهم; لأنه عليه السلام أعطي قوة ، يعني غير قوى البشر . وجاء بلفظ رجل ردا على المخاطبين بهذا ، إذ كانوا يزعمون أن الملائكة إناث . وقال القرطبي : لو جعل الله الرسول إلى البشر ملكا ، لفروا من مقاربته ، وما أنسوا به ، ولداخلهم من الرعب من كلامه ، ما يلكنهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله ، فلا تعم المصلحة ، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم لقالوا : لست ملكا ، وإنما أنت بشر ، فلا نؤمن بك ، وعادوا إلى مثل حالهم انتهى . وهو جمع كلام من قبله من المفسرين . وفي هذه الآية دليل على من أنكر نزول الملائكة إلى الأرض ، وقالوا : هي أجسام لطيفة ليس فيها ما يقتضي انحطاطها ، ونزولها إلى الأرض . ورد ذلك عليهم; بأنه تعالى قادر أن يودع أجسامها ثقلا يكون سببا لنزولها إلى الأرض ، ثم يزيل ذلك فتعود إلى ما كانت عليه من اللطافة والخفة ، فيكون ذلك سببا لارتفاعها انتهى هذا الرد . والذي نقول إن القدرة الإلهية تنزل الخفيف ، وتصعد الكثيف من غير أن يجعل في الخفيف ثقلا ، وفي الكثيف خفة ، وليس هذا بالمستحيل ، فيتكلف أن يودع في الخفيف ثقلا ، وفي الكثيف خفة . وفي الآية دليل على إمكان تمثيل الملائكة بصورة البشر ، وهو صحيح واقع بالنقل المتواتر .
( وللبسنا عليهم ما يلبسون ) أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك ، فإني أستدل بأني جئت بالقرآن المعجز ، وفيه أني ملك لا بشر كذبوه كما كذبوا الرسل ، فخذلوا كما هم مخذولون ، ويجوز أن يكون المعنى ( وللبسنا عليهم ) حينئذ مثل ، ( ما يلبسون ) على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله ، قاله ، وفيه بعض تلخيص . وقال الزمخشري ابن عطية : ولخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وضعفتهم; أي : لفعلنا لهم في ذلك تلبسا ، يطرق لهم إلى أن يلبسوا به ، وذلك لا يحسن ، ويحتمل الكلام مقصدا آخر; أي ( للبسنا ) نحن ( عليهم ) كما يلبسون هم على ضعفتهم ، فكنا ننهاهم عن التلبيس ، ونفعله نحن انتهى . وقال قوم : كان يحصل التلبيس لاعتقادهم أن الملائكة إناث ، فلو رأوه في صورة رجل ، حصل التلبيس عليهم ، كما حصل منهم التلبيس على غيرهم . وقال قوم منهم الضحاك : الآية نزلت في اليهود ، والنصارى في دينهم وكتبهم ، حرفوها ، وكذبوا رسلهم ، فالمعنى في اللبس; زدناهم ضلالا على ضلالهم . وقال : لبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم بتحريف الكلام عن مواضعه . و ( ما ) مصدرية ، وأضاف اللبس إليه تعالى على جهة الخلق ، وإليهم على جهة الاكتساب . وقرأ ابن عباس ابن محيصن : ( ولبسنا ) بلام واحدة ، ( وللبسنا ) بتشديد الباء . والزهري