قلت : لأنه تخصيص بالصفة فقارب المعرفة كقوله : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ) انتهى . وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة; لكونها وصفت لا يتعين هنا أن يكون هو المسوغ; لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل; لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة ، أن يكون الموضع موضع تفصيل ، نحو قوله :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول
وقد سبق كلامنا على هذا البيت ، وبينا أنه لا يجوز أن يكون عندنا في موضع الصفة ، بل يتعين أن يكون في موضع الخبر . وقال : فإن قلت : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد ، ولي عبد كيس ، وما أشبه ذلك . قلت : أوجبه أن المعنى وأي ( أجل مسمى عنده ) تعظيما لشأن الساعة ، فلما جرى فيه هذا المعنى ، وجب التقديم انتهى . وهذا لا يجوز لأنه إذا كان التقدير وأي ( أجل مسمى عنده ) ، كانت أي صفة لموصوف محذوف ، تقديره : وأجل أي ( أجل مسمى عنده ) ، ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أيا ، ولا حذف موصوفها وإبقاؤها ، فلو قلت : مررت بأي رجل ، تريد برجل أي رجل ، لم يجز ( وتمترون ) معناه تشكون أو تجادلون جدال الشاكين ، والتماري المجادلة على مذهب الشك ، قاله بعض المفسرين . والكلام في ( ثم ) هنا كالكلام فيها في قوله : ( الزمخشري ثم الذين كفروا ) والذي يظهر لي أن قوله تعالى : ( هو الذي خلقكم ) على جهة الخطاب ، هو التفات من الغائب الذي هو قوله : ( ثم الذين كفروا ) ، وإن كان الخلق وقضاء الأجل ليس مختصا بالكفار ، إذ اشترك فيه المؤمن والكافر ، لكنه قصد به الكافر; تنبيها له على أصل خلقه ، وقضاء الله تعالى عليه وقدرته ، وإنما قلت إنه من باب الالتفات; لأن قوله : ( ثم أنتم تمترون ) ، لا يمكن أن يندرج في هذا الخطاب من اصطفاه الله بالنبوة والإيمان .( وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ) لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار ، ذكر ما [ ص: 72 ] يدل على العلم التام ، فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالى قادرا مختارا عالما بالكليات والجزئيات ، وإبطالا لشبه منكر المعاد . والظاهر أن ( هو ) ضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر قبله ( وهو الله ) وهذا قول الجمهور ، قاله الكرماني . وقال أبو علي : ( هو ) ضمير الشأن ( والله ) مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة مفسرة لضمير الشأن ، وإنما فر إلى هذا; لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن كان عائدا على الله تعالى ، فيصير التقدير الله و ( الله ) ، فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين متحدين لفظا ومعنى ، لا نسبة بينهما إسنادية ، وذلك لا يجوز ، فلذلك ، والله أعلم ، تأول . أبو علي : الآية على أن الضمير ضمير الأمر ( والله ) ، خبره يعلم في ( السماوات وفي الأرض ) متعلق بـ ( يعلم ) ، والتقدير; الله يعلم ( في السماوات وفي الأرض ) ، ( سركم وجهركم ) ، ذهب إلى أن قوله : ( الزجاج في السماوات ) متعلق بما تضمنه اسم الله من المعاني ، كما يقال : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب . قال ابن عطية : وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى ، وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه ، وآثار قدرته وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات ، فجمع هذه كلها في قوله : ( وهو الله ) أي الذي له هذه كلها ( في السماوات وفي الأرض ) ، كأنه قال : وهو الخالق الرازق ، والمحيي المحيط في السماوات ، وفي الأرض ، كما تقول : زيد السلطان في الشام والعراق ، فلو قصدت ذات زيد ، لقلت : محالا ، وإذا كان مقصد قولك زيد السلطان ، الآمر الناهي ، الناقض المبرم ، الذي يعزل ويولي في الشام والعراق ، فأقمت السلطان مقام هذه كلها ، كان فصيحا صحيحا ، فكذلك في الآية أقام لفظة ( الله ) مقام تلك الصفات المذكورة انتهى . وما ذكره وأوضحه الزجاج ابن عطية صحيح من حيث المعنى ، لكن صناعة النحو لا تساعد عليه; لأنهما زعما أن ( في السماوات ) متعلق بلفظ ( الله ) لما تضمنه من المعاني ، ولا تعمل تلك المعاني جميعها في اللفظ; لأنه لو صرح بها جميعها ، لم تعمل فيه ، بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها ، وإن كان ( في السماوات ) متعلقا بها جميعها من حيث المعنى ، بل الأولى أن يعمل في المجرور ما تضمنه لفظ ( الله ) من معنى الألوهية ، وإن كان لفظ ( الله ) علما; لأن الظرف والمجرور قد يعمل فيهما العلم بما تضمنه من المعنى ، كما قال : أنا أبو المنهال بعض الأحيان ، فـ ( بعض ) منصوب بما تضمنه أبو المنهال ، كأنه قال : أنا المشهور بعض الأحيان . وقال : نحوا من هذا ، قال : ( الزمخشري في السماوات ) متعلق بمعنى اسم الله ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما ، ومنه قوله : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) أي : وهو المعروف بالإلهية ، أو المتوحد بالإلهية فيها ، أو هو الذي يقال له : الله فيها لا يشرك في هذا الاسم انتهى . فانظر [ ص: 73 ] تقاديره كلها ، كيف قدر العامل واحدا من المعاني لا جميعها . وقالت فرقة ( هو ) على تقدير صفة حذفت ، وهي مرادة في المعنى ، كأنه قيل : هو الله المعبود ( في السماوات وفي الأرض ) وقدرها بعضهم ، وهو الله المدبر ( في السماوات وفي الأرض ) . وقالت فرقة : ( وهو الله ) تم الكلام هنا . ثم استأنف ما بعده ، وتعلق المجرور بـ ( يعلم ) . وقالت فرقة : ( وهو الله ) تام ، و ( في السماوات وفي الأرض ) متعلق بمفعول ( يعلم ) وهو ( سركم وجهركم ) ، والتقدير يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض ، وهذا يضعف; لأن فيه تقديم مفعول المصدر الموصول عليه . والعجب من النحاس حيث قال : هذا من أحسن ما قيل : فيه . وقالت فرقة : هو ضمير الأمر ، والله مرفوع على الابتداء ، وخبره ( في السماوات ) ، والجملة خبر عن ضمير الأمر; وتم الكلام ، ثم استأنف فقال : ( وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ) أي : ويعلم في الأرض . وقال نحوا من هذا ، إلا أن ( هو ) عائد على ما عادت عليه الضمائر قبل ، وليس ضمير الأمر ، وقيل : يتعلق ( ابن جرير في السماوات ) بقوله : ( تكسبون ) هذا خطأ لأن ( ما ) موصولة بـ ( تكسبون ) ، وسواء كانت حرفا مصدريا ، أم اسما بمعنى ( الذي ) ، فإنه لا يجوز تقديم معمول الصلة على الموصول . وقيل : ( في السماوات ) حال من المصدر الذي هو ( سركم وجهركم ) تقدم على ذي الحال ، وعلى العامل . وقال : يجوز أن يكون ( الزمخشري الله في السماوات ) خبرا بعد خبر ، على معنى أنه الله ، وأنه في السماوات والأرض ، بمعنى أنه عالم بما فيهما ، لا يخفى عليه شيء منه ، كأن ذاته فيها ، وهو ضعيف; لأن المجرور بـ ( في ) لا يدل على وصف خاص ، إنما يدل على كون مطلق . وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية ، وإنما ذهب أهل العلم إلى هذه التأويلات ، والخروج عن ظاهر ( في السماوات وفي الأرض ) لما قام عليه دليل العقل من استحالة حلول الله تعالى في الأماكن ، ومماسة الإجرام ، ومحاذاته لها ، وتحيزه في جهة ، قال معناه ، وبعض لفظه ابن عطية . وفي قوله : ( يعلم سركم ) إلى آخره خبر في ضمنه تحذير وزجر . قال أبو عبد الله الرازي : المراد بالسر : صفات القلوب ، وهو الدواعي والصوارف ، وبالجهر أعمال الجوارح ، وقدم السر لأن ذكر المؤثر في الفعل ، هو مجموع القدرة مع الداعي ، فالداعية التي هي من باب السر ، هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر ، وقد ثبت أن العلم بالعلة ، علة العلم بالمعلول ، والعلة متقدمة على المعلول ، والمقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ انتهى . قال التبريزي : معناه يعلم ما تخفونه من أعمالكم ونياتكم ، وما تظهرون من أعمالكم ، وما تكسبون عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال ، وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلاب نفع ، أو دفع ضر ، ولهذا لا يوصف به الله تعالى . وقال أبو عبد الله الرازي : وفي أول كلامه شيء من معنى كلام ، يجب حمل قوله : ( الزمخشري ما تكسبون ) على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب ، فهو محمول على المكتسب ، كما يقال هذا المال كسب فلان; أي مكتسبه ، ولا يجوز حمله على نفس الكسب ، وإلا لزم عطف الشيء على نفسه . وفي هذه الآية رد على المعطلة والثنوية والحشوية والفلاسفة انتهى . وقال : فإن قلت : كيف موقع قوله : ( الزمخشري يعلم سركم وجهركم ) ، قلت : إن أراد المتوحد بالإلهية ، كان تقريرا له; لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية ، هو الله وحده ، وكذلك إذا جعلت ( في السماوات ) خبرا بعد خبر ، وإلا فهو كلام مبتدأ ، أو خبر ثالث انتهى . وهذا على مذهب من يجيز أن يكون للمبتدأ أخبار متعددة .
( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ) . ( من ) الأولى زائدة لاستغراق الجنس ، ومعنى الزيادة فيها أن ما بعدها معمول لما قبلها فاعل بقوله : ( تأتيهم ) ، فإذا كانت [ ص: 74 ] النكرة بعدها مما لا يستعمل إلا في النفي العام ، كانت ( من ) لتأكيد الاستغراق ، نحو : ما في الدار من أحد ، وإذا كانت مما يجوز أن يراد بها الاستغراق ، ويجوز أن يراد بها نفي الوحدة ، أو نفي الكمال ، كانت ( من ) ، دالة على الاستغراق ، نحو : ما قام من رجل . و ( من ) الثانية للتبعيض . قال : يعني وما يظهر لهم قط دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار ، إلا كانوا عنه ( معرضين ) تاركين للنظر ، لا يلتفتون إليه ، ولا يرفعون به رأسا; لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب انتهى . واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله : وما يظهر لهم قط دليل ، ليس بجيد; لأن قط ظرف مختص بالماضي ، إلا إن كان أراد بقوله : وما يظهر ، وما ظهر ، ولا حاجة إلى استعمال ذلك . وقيل : ( الآية ) هنا العلامة على وحدانية الله ، وانفراده بالألوهية . وقيل : الرسالة . وقيل : المعجز الخارق . وقيل : القرآن ، ومعنى ( عنها ) أي : عن قبولها أو سماعها ، والإعراض ضد الإقبال ، وهو مجاز ، إذ حقيقته في الأجسام ، والجملة من قوله : ( كانوا ) ومتعلقها في موضع الحال ، فيكون ( تأتيهم ) ماضي المعنى; لقوله : ( كانوا ) ، أو يكون ( كانوا ) مضارع المعنى; لقوله : ( تأتيهم ) ، وذو الحال ، هو الضمير في ( تأتيهم ) ، ولا يأتي ماضيا إلا بأحد شرطين ، أحدهما : أن يسبقه فعل كما في هذا الآية ، والثاني أن تدخل على ذلك الماضي ( قد ) ، نحو ما زيد إلا قد ضرب عمرا ، وهذا التفات ، وخروج من الخطاب إلى الغيبة ، والضمير عائد على ( الذين كفروا ) . وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء ( الذين كفروا ) بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم ، ولما تقدم الكلام أولا في التوحيد ، وثانيا في المعاد ، وثالثا في تقرير هذين المطلوبين ، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بتقرير النبوة ، وبين فيه أنهم أعرضوا عن تأمل الدلائل ، ويدل ذلك على أن التقليد باطل ، وأن التأمل في الدلائل ، واجب ، ولذلك ذموا بإعراضهم عن الدلائل . الزمخشري
( فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ) ، ( الحق ) القرآن أو الإسلام أو محمد أو انشقاق القمر أو الوعد أو الوعيد ، أقوال ، والذي يظهر أنه الآية التي تأتيهم ، وكأنه قيل : ( فقد كذبوا ) بالآية التي تأتيهم ، وهي ( الحق ) فأقام الظاهر مقام المضمر; لما في ذلك من وصفه بالحق ، وحقيقته كونه من آيات الله تعالى . وظاهر قوله : ( فقد كذبوا ) أن الفاء للتعقيب ، وأن إعراضهم عن الآية أعقبه التكذيب . وقال : ( الزمخشري فقد كذبوا ) مردود على كلام محذوف ، كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات ، ( فقد كذبوا ) بما هو أعظم آية وأكبرها ، وهو الحق لما جاءهم ، يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة ، فعجزوا عنه انتهى . ولا ضرورة تدعو إلى شرط محذوف ، إذ الكلام منتظم بدون هذا التقدير .
( فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) هذا يدل على أنهم وقع منهم الاستهزاء ، [ ص: 75 ] فيكون في الكلام معطوف محذوف ، دل عليه آخر الآية ، وتقديره : واستهزءوا به ( فسوف يأتيهم ) وهذه رتب ثلاث صدرت من هؤلاء الكفار ، الإعراض عن تأمل الدلائل ، ثم أعقب الإعراض التكذيب ، وهو أزيد من الإعراض ، إذ المعرض قد يكون غافلا عن الشيء ، ثم أعقب التكذيب الاستهزاء ، وهو أزيد من التكذيب ، إذ المكذب قد لا يبلغ إلى حد الاستهزاء ، وهذه هي المبالغة في الإنكار . والنبأ : الخبر الذي يعظم وقعه ، وفي الكلام حذف مضاف; أي : ( فسوف يأتيهم ) مضمن ( أنباء ) ، فقال قوم : المراد ما عذبوا به في الدنيا من القتل والسبي والنهب والإجلاء ، وغير ذلك ، وخصص بعضهم ذلك بيوم بدر . وقيل : هو عذاب الآخرة ، وتضمنت هذه الجملة التهديد والزجر والوعيد ، كما تقول : اصنع ما تشاء ، فسيأتيك الخبر ، وعلق التهديد بالاستهزاء دون الإعراض والتكذيب ، لتضمنه إياهما ، إذ هو الغاية القصوى في إنكار الحق . وقال : وهو القرآن; أي أخباره وأحواله ، بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزءوا ، وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته انتهى . وهو على عادته في الإسهاب وشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه . وجاء هنا تقييد الكذب بالحق ، والتنفيس بـ ( سوف ) . وفي الشعراء ، فقد كذبوا فسيأتيهم; لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء ، فاستوفى فيها اللفظ ، وحذف من الشعراء ، وهو مراد حالة على الأول ، وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس ، فجاء بالسين . والظاهر أن ( ما ) في قوله : ( ما كانوا ) موصولة اسمية ، بمعنى ( الذي ) ، والضمير في ( به ) عائد عليها . وقال الزمخشري ابن عطية : يصح أن تكون مصدرية . التقدير ( أنباء ) كونهم مستهزئين ، فعلى هذا يكون الضمير في ( به ) عائدا على الحق ، لا على مذهب الأخفش ، حيث زعم أن ( ما ) المصدرية اسم لا حرف ، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية .