ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة ، شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ، والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب . وقرأ حمزة " تحسبن " بالتاء ، فتكون الذين [ ص: 128 ] أول مفعولين لتحسبن ، وهو على حذف مضاف أي : بخل الذين . وقرأ باقي السبعة بالياء . فإن كان الفعل مسندا إلى الضمير ، فيكون المفعول الأول محذوفا تقديره : بخلهم ، وحذف لدلالة يبخلون عليه . وحذفه - كما قلنا - عزيز جدا عند الجمهور ؛ فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف ، وهو فصل . وقرأ بإسقاط " هو " ، وخيرا هو المفعول بتحسبن . قال الأعمش ابن عطية : ودل قوله : " يبخلون " على هذا البخل المقدر ، كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر :
إذا نهى السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف
والمعنى : جرى إلى السفه . انتهى . وليست الدلالة فيهما سواء ؛ لوجهين : أحدهما أن الدال في الآية هو الفعل ، وفي البيت هو اسم الفاعل ، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل ؛ ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه في القرآن وكلام العرب ، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إن وجد . والثاني أن في الآية حذفا لظاهر ؛ إذ قدروا المحذوف " بخلهم " ، وأما في البيت فهو إضمار ، لا حذف . ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية ، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال إذا جعلنا الفعل مسندا للذين ، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين ، ويبخلون يطلب مفعولا بحرف جر ، فقوله : ما آتاهم يطلبه يحسبن ، على أن يكون المفعول الأول ، ويكون هو فصلا ، وخيرا المفعول الثاني ويطلبه يبخلون بتوسط حرف الجر ، فأعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون . فعدي بحرف الجر واحد معموله ، وحذف معمول تحسبن الأول ، وبقي معموله الثاني ؛ لأنه لم يتنازع فيه ، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول . وساغ حذفه وحده ، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة : متى رأيت أو قلت : زيد منطلق ؛ لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد منطلق ، وفي الآية : لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد ، وتقدير المعنى : ولا تحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم الناس الذين يبخلون به ، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلا لما آتاهم المحذوف ، لا لتقديرهم بخلهم . ونظير هذا التركيب : ظن الذي مر بهند هي المنطلقة . المعنى : ظن هندا الشخص الذي مر بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو الاسم الأول ، فأعمل الفعل الثاني وبقي الأول يطلب محذوفا ، ويطلب المفعول الثاني مثبتا ، إذ لم يقع فيه التنازع . ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيرا لهم ، وكان تحت الانتفاء قسمان : أحدهما أن لا خير ولا شر ، والآخر إثبات الشر - أتى بالجملة التي تعين أحد القسمين وهو إثبات كونه شرا لهم . سيبويه
( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) : هذا تفسير لقوله : ( بل هو شر لهم ) والظاهر حمله على المجاز ، أي [ ص: 129 ] سيلزمون عقابه إلزام الطوق ، وفي المثل لمن جاء بهنة : تقلدها طوق الحمامة . وقال : سيجعل لهم يوم القيامة طوق من نار . قال إبراهيم النخعي مجاهد وغيره : هو من الطاقة لا من التطويق ، والمعنى : سيحملون عقاب ما بخلوا به . كقوله : ( وعلى الذين يطوقونه ) وقال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به . وهذا التفسير لا يناسب قوله : إن البخل هو العلم الذي تفضل الله عليهم به من أمر الرسول . وقال أبو وائل : هو الرجل يرزقه الله مالا فيمنع منه قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية يطوقها فيقول : ما لي ولك ، فيقول : أنا مالك . وجاء في الحديث : " " . والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة . ( ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه ولله ميراث السماوات والأرض ) : فيه قولان : أحدهما أنه تعالى له ملك جميع ما يقع من إرث في السماوات والأرض ، وأنه هو المالك له حقيقة ، فكل ما يحصل لمخلوقاته مما ينسب إليهم ملكه هو مالكه حقيقة . وهذا كان هو مالكه ، فما لكم تبخلون بشيء أنتم ممتعون به ، لا مالكوه حقيقة ، كما قال تعالى : ( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) . والقول الثاني : أنه خبر بفناء العالم ، وأن جميع ما يخلقونه فهو وارثه . وهو خطاب على ما يفهم البشر ، دل على فناء الجميع ، وأنه لا يبقى مالك إلا الله ، وإن كان ملكه على كل شيء لم يزل .
( والله بما تعملون خبير ) : ختم بهذه الصفة ومعناها التهديد والوعيد على قبيح مرتكبهم من البخل . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : " يعملون " على الغيبة جريا على يبخلون وسيطوقون . وقرأ الباقون بالتاء على الالتفات ، فيكون ذلك خطابا للباخلين . وقال ابن عطية : وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة ؛ لأنه قد تقدم : ( وإن تؤمنوا وتتقوا ) . انتهى . فلا يكون على قوله التفاتا ، والأحسن الالتفات .
وتضمنت هذه الآيات فنونا من البلاغة والبديع : الاختصاص في : أجر المؤمنين . والتكرار في : يستبشرون ، وفي : لن يضروا الله شيئا ، وفي اسمه في عدة مواضع ، وفي : لا يحسبن الذين كفروا ، وفي ذكر الإملاء . والطباق في : اشتروا الكفر بالإيمان ، وفي : ليطلعكم على الغيب . والاستعارة في : يسارعون ، وفي : اشتروا ، وفي : نملي ، وفي : ليزدادوا إثما ، وفي : الخبيث والطيب . والتجنيس المماثل في : فآمنوا وإن تؤمنوا . والالتفات في : أنتم ، إن كان خطابا للمؤمنين ، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم عليه ، وإن كان خطابا لغيرهم كان من تلوين الخطاب ، وفي : تعملون خبير ، فيمن قرأ بتاء الخطاب . والحذف في مواضع .