الزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب . يقال : زبرت أي كتبت ، فهو بمعنى مفعول أي : مزبور ، كالركوب بمعنى المركوب . وقال امرؤ القيس :
لمن طلل أبصرته فشجاني كخط زبور في عسيب يمان
ويقال : زبرته قرأته ، وزبرته حسنته ، وتزبرته زجرته . وقيل : اشتقاق الزبور من الزبرة ، وهي القطعة من الحديد التي تركت بحالها .
الزحزحة : التنحية والإبعاد ، تكرير الزح وهو الجذب بعجلة ، ويقال : مكان زحزح أي بعيد .
الفوز : النجاة مما يحذر والظفر بما يؤمل ، وسميت الأرض القفر البعيدة [ ص: 130 ] المخوف من الهلاك فيها مفازة على سبيل التفاؤل ، لأن من قطعها فاز . وقيل : لأنها مظنة تفويز ومظنة هلاك . تقول العرب : فوز الرجل : مات .
( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) : نزلت في فنحاص بن عازوراء ، حاوره أبو بكر في الإسلام وأن يقرض الله قرضا حسنا ، فقال هذه المقالة ، فضربه أبو بكر ومنعه من قبله العهد ، فشكاه إلى الرسول وأنكر ما قال ، فنزلت تكذيبا لفنحاص ، وتصديقا للصديق . قاله ، ابن عباس وعكرمة ، والسدي ، ومقاتل ، وابن إسحاق رضي الله عنهم ، وساقوا القصة مطولة . وقال قتادة : نزلت في حيـي بن أخطب ، وقال هو أيضا والحسن ومعمر وغيرهم : في اليهود . وذكر أبو سليمان الدمشقي في إلياس بن عمر . ولما نزل ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) قال أو قالوا : إنما يستقرض الفقير الغني ، والظاهر أن قائل ذلك جمع ، فيمكن أن ذلك صدر من فنحاص أو حيـي أولا ، ثم تقاولها اليهود ، أو صدر ذلك من واحد فقط ، ونسب للجماعة على عادة كلام العرب في نسبتها إلى القبيلة فعل الواحد منها .
ومعنى لقد سمع الله : أنه لم يخف عليه تعالى مقالتهم ، ومقالتهم هذه إما على سبيل الاستهزاء بما نزل من طلب الإقراض ، وإما على سبيل الجدل والإلزام ؛ لأن من طلب الإقراض كان فقيرا ، وإما على الاعتقاد . ولا يستبعد ذلك من عقولهم ؛ إذ قد حكى الله عنهم ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ) وأيا ما كان من هذه الأسباب ، فذلك دليل على تمردهم في الكفر والمبالغة فيه ، حيث نسبوا الموجد الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود الغني بذاته عما أوجده - الوصف الدال على الافتقار لبعض ما أوجده ، ونسبوا العكس إلى أنفسهم ، وجاءت الجملة مؤكدة باللام مؤذنة بعلمه بمقالتهم ومؤكدة له ، وحيث نسبوا إلى الله ما نسبوا ، أكدوا الجملة بـ " أن " على سبيل المبالغة . وحيث نسبوا إلى أنفسهم ما نسبوا لم يؤكدوا ، بل أخرجوا الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد ، كأن الغنى وصف لهم لا يمكن فيه نزاع ، فيحتاج إلى أن يؤكد .
( سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) : الظاهر إجراء الكتابة على أنها حقيقة ، قال ذلك كثير من العلماء . وأنها تكتب الأعمال في صحف ، وأن تلك الصحف هي التي توزن ، ويحدث الله سبحانه وتعالى فيها الخفة والثقل بحسب ما كتب فيها من الخير والشر . وقيل : سنكتب ما قالوا في القرآن حتى يعلم القوم شدة تعنتهم وحسدهم في الطعن عليه - صلى الله عليه وسلم - . وذهب قوم : إلى أن الكتابة مجاز ، ومعناها الإحصاء للشيء وضبطه وعدم إهماله وكينونته في علم الله شيئا محفوظا لا ينسى ، كما يثبت المكتوب . وذهب إلى أن معنى سنكتب : سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوه في الدنيا كقوله : ( كتب عليكم الصيام ) وجاء سنكتب بلفظ المستقبل دون لفظ الماضي ؛ لأنه تضمن المجازاة على ما قالوه . وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى . ونسب إليهم قتلهم الأنبياء وإن كان من فعل آبائهم ؛ لما كانوا راضين به . وقد سموا أيضا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهموا بقتله ، ودل هذا القول وهذا الفعل على جميع الأقوال والأفعال القبيحة التي صدرت منهم . إذ القول في هذه الآية أشنع الأقوال في الله تعالى ، والقتل أشنع الأفعال التي فعلوها مع أنبياء الله تعالى ، وتشريك القتل مع هذا القول يدل على أنهما يسببان في استحقاق العقاب . ولما كان الصادر منهم قولا وفعلا ، ناسب أن يكون الجزاء قولا وفعلا ، فتضمن القول والفعل قوله تعالى : " ونقول ذوقوا عذاب الحريق " . وفي الجمع بين القول والفعل أعظم انتقام ، ويقال للمنتقم منه : أحس وذق .
وقال أبو سفيان لحمزة - رضي الله عنه - لما طعنه وحشي : ذق عقق ، واستعير لمباشرة العذاب الذوق ؛ لأن الذوق من أبلغ أنواع المباشرة ، وحاستها متميزة جدا . والحريق : المحرق ، فعيل بمعنى مفعل ، كأليم بمعنى مؤلم . وقيل : الحريق طبقة من طباق جهنم . وقيل : الحريق [ ص: 131 ] الملتهب من النار ، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة ، والملتهبة أشدها . والظاهر أن هذا القول يكون عند دخولهم جهنم . وقيل : قد يكون عند الحساب ، أو عند الموت . وأن وما بعدها محكي بقالوا . وأجاز أبو البقاء أن يكون محكيا بالمصدر ، فيكون من باب الإعمال . قال : وإعمال الأول أصل ضعيف ، ويزداد ضعفا لأن الثاني فعل والأول مصدر ، وإعمال الفعل أقوى . والظاهر أن " ما " فيما قالوا موصولة بمعنى الذي ، وأجيز أن تكون مصدرية .
وقرأ الجمهور : سنكتب وقتلهم بالنصب . ونقول : بنون المتكلم المعظم . أو تكون للملائكة . وقرأ الحسن " سيكتب " بالياء على الغيبة . وقرأ والأعرج حمزة : " سيكتب " بالياء مبنيا للمفعول ، " وقتلهم " بالرفع عطفا على " ما " ، إذ هي مرفوعة بسيكتب ، ويقول بالياء على الغيبة . وقرأ : سنكتب ما يقولون . وحكى طلحة بن مصرف الداني عنه : " ستكتب ما قالوا " بتاء مضمومة على معنى مقالتهم . وقرأ : ويقال ذوقوا . ونقلوا عن ابن مسعود أبي معاذ النحوي أن في حرف سنكتب ما يقولون ونقول لهم ذوقوا . ابن مسعود
( ذلك بما قدمت أيديكم ) : الإشارة إلى ما تقدم من عقابهم ، ونسب ما قدموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب ؛ لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال ، فكان كل عمل واقع بها . وهذه الجملة داخلة في المقول ، ونجوا بذلك ، وذكر لهم السبب الذي أوجب لهم العقاب . ويحتمل أن يكون خطابا لمعاصري الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم نزول الآية ، فلا يندرج تحت معمول قوله : " ونقول " .
( وأن الله ليس بظلام للعبيد ) : هذا معطوف على قوله : " بما قدمت أيديكم " ، أي ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم ، وعدل الله تعالى فيكم . وجاء لفظ " ظلام " الموضوع للتكثير ، وهذا تكثير بسبب المتعلق . وذهب بعضهم إلى أن " فعالا " قد يجيء لا يراد به الكثرة ، كقول طرفة :
ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترفد القوم أرفد
لا يريد أنه قد يحل التلاع قليلا ؛ لأن عجز البيت يدفعه ، فدل على نفي البخل في كل حال ، وتمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة ، وقيل : إذا نفى الظلم الكثير اتبع القليل ضرورة ؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضرر كان للظلم القليل المنفعة أترك .
وقال القاضي : العذاب الذي توعد أن يفعله بهم : لو كان ظالما لكان عظيما ، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا . والعبيد جمع عبد ، كالكليب . وقد جاء اسم الجمع على هذا الوزن نحو الضيفن وغيره من جمع التكسير ، جواز الإخبار عنه إخبار الواحد كأسماء الجموع ، وناسب لفظ هذا الجمع دون لفظ العباد ؛ لمناسبة الفواصل التي قبله مما جاءت على هذا الوزن ، كما ناسب ذلك في سورة فصلت ، وكما ناسب لفظ العباد في سورة غافر ما قبله وما بعده . قال ابن عطية : وجمع عبدا في هذه الآية على عبيد ؛ لأنه مكان تشقيق وتنجية من ظلم . انتهى كلامه . ولا تظهر لي هذه العلة التي ذكرها في هذا الجمع . وقال : ( فإن قلت ) : فلم عطف قوله : " الزمخشري وأن الله ليس بظلام للعبيد " ، ( على ما قدمت أيديكم ) وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكا لاجتراحهم السيئات في استحقاقهم العذاب ؟ ( قلت ) : معنى كونه غير ظلام للعبيد أنه عادل عليهم ، ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثيب المحسن . انتهى ، وفيه رائحة الاعتزال .
( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ) قال الكعبي : نزلت في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وزيد بن مانوه ، وفنحاص بن عازوراء ، وحيـي بن أخطب ، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : تزعم أن الله بعثك [ ص: 132 ] إلينا رسولا ، وأنزل عليك كتابا ، وأن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك . وظاهر هذا القول أنه عهد إليهم في التوراة ، فقيل : كان هذا في التوراة ، ولكن كان تمام الكلام حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان . وقيل : كان أمر القرابين ثابتا ، إلى أن نسخت على لسان المسيح . وقيل : ذكرهم هذا العهد هو من كذبهم على الله تعالى ، وافترائهم عليه وعلى أنبيائه .
ومعنى عهد : وصى ، والعهد أخص من الأمر ؛ لأنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان ، وتقدم تفسيره . وتعدى نؤمن باللام كما في قوله : ( فما آمن لموسى ) يؤمن لله . والقربان : ما يتقرب به من شاة أو بقرة أو غير ذلك ، وهو في الأصل مصدر سمي المفعول به كالرهن ، وكان حكمه قديما في الأنبياء . ألا ترى إلى قصة ابني آدم ، وكان أكل النار ذلك القربان دليلا على قبول العمل من صدقة أو عمل ، أو صدق مقالة . وإذا لم تنزل النار فليس بمقبول ، وكانت النار أيضا تنزل للغنائم فتحرقها . وإسناد الأكل إلى النار مجاز واستعارة عن إذهاب الشيء وإفنائه ، إذ حقيقة الأكل إنما توجد في الحيوان المتغذي ، والقربان وأكل النار معجز للنبي يوجب الإيمان به ، فهو وسائر المعجزات سواء . ولله أن يعين من الآيات ما شاء لأنبيائه ، وهذا نظير ما يقترحونه من الآيات على سبيل التبكيت والتعجيز . وقد أخبر تعالى أنه لو نزل ما اقترحوه لما آمنوا .
والذين قالوا : صفة للذين قالوا . وقال : الذين صفة للعبيد . قال الزجاج ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى والوصف . انتهى ، وهو كما قال . وجوزوا قطعه للرفع والنصب ، وإتباعه بدلا . وفي " أن لا نؤمن " تقدير حرف جر ، فحذف وبقي على الخلاف فيه : أهو في موضع نصب أو جر ؟ وأن يكون مفعولا به على تضمين " عهد " معنى " الزم " ، فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن . وقرأ عيسى بن عمر " بقربان " بضم الراء . قال ابن عطية : إتباعا لضمة القاف ، وليس بلغة ؛ لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين . وحكى السلطان بضم اللام ، وقال : إن ذلك على الإتباع . انتهى . ولم يقل سيبويه : إن ذلك على الإتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان ، ولا شيئا من هذا النحو لم يذكره . ولكنه جاء فعلان وهو قليل ، قالوا : السلطان وهو اسم . انتهى . وقال الشارح صاحب هذه اللغة لا يسكن ولا يتبع ، وكذا ذكر التصريفيون أنه بناء مستقبل . قالوا فيما لحقه زيادتان بعد اللام وعلى فعلان ولم يجئ إلا اسما : وهو قليل نحو سلطان . سيبويه
( قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ) رد الله تعالى عليهم وأكذبهم في اقتراحهم ، وألزمهم أنهم قد جاءتهم الرسل بالذي قالوه من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار وبالآيات غيره ، فلم يؤمنوا بهم ، بل قتلوهم . ولم يكتفوا بتكذيبهم حتى أوقعوا بهم شر فعل ، وهو إتلاف النفس بالقتل . فالمعنى أن هذا منكم معشر اليهود تعلل وتعنت ، ولو جاءهم بالقربان لتعللوا بغير ذلك مما يقترحونه . والاقتراح لا غاية له ، ولا يجاب طالبه إلا إذا أراد الله هلاكه ، كقصة قوم صالح وغيره . وكذلك قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اقتراح قريش فأبى - عليه السلام - وقال : بل أدعوهم وأعالجهم . ومعنى : " إن كنتم صادقين " في دعواكم أن الإيمان يلزم بإتيان البينات والقربان ، أو صادقين في أن الله عهد إليكم .
( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ) : الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك على سبيل التسلية لما ظهر كذبهم على الله بذكر العهد الذي افتروه ، وكان في ضمنه تكذيبه إذ علقوا الإيمان به على شيء مقترح منهم على سبيل التعنت ، ولم يجبهم الله لذلك ، فسلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن هذا دأبهم ، [ ص: 133 ] وسبق منهم تكذيبهم لرسل جاءوا بما يوجب الإيمان من ظهور المعجزات الواضحة الدلالة على صدقهم ، وبالكتب السماوية الإلهية النيرة المزيلة لظلم الشبه .
والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب ، سمي بذلك قيل : لأنه مكتوب ، إذ يقال : زبره كتبه . أو لكونه زاجرا من زبره زجره ، وبه سمي كتاب داود زبورا لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ ، أو لأحكامه . والزبر : الأحكام . وقال : الزبور كل كتاب فيه حكمة . قيل : والكتاب هو الزبر . وجمع بين اللفظين على سبيل التأكيد ، أو لاختلاف معنييهما ، مع أن المراد واحد ، ولكن اختلف معنياهما من حيث الصفة . وقيل : الكتاب هنا جنس للتوراة والإنجيل وغيرهما ، ويحتمل أن يراد بقوله : والزبر الزواجر من غير أن يراد به الكتب . أي : جاءوا بالمعجزات الواضحة والتخويفات والكتب النيرة . الزجاج
وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه ، التقدير : وإن يكذبوك فتسل به . ولا يمكن أن يكون " فقد كذب رسل " الجواب ؛ لمضيه ؛ إذ جواب الشرط مستقبل لا محالة لترتبه على المستقبل ، وما يوجد في كلام المعربين أن مثل هذا من الماضي هو جواب الشرط ، فهو على سبيل التسامح لا الحقيقة . وبنى الفعل للمفعول ؛ لأنه لم يقتصر في تكذيب الرسل على تكذيب اليهود وحدهم لأنبيائهم ، بل نبه على أن من عادة اليهود وغيرهم من الأمم تكذيب الأنبياء ، فكان المعنى : فقد كذبت أمم من اليهود وغيرهم الرسل . قيل : ونكر رسل لكثرتهم وشياعهم . ومن قبلك : متعلق بكذب ، والجملة من قوله : جاءوا في موضع الصفة لرسل . انتهى . والباء في " بالبينات " تحتمل الحال والتعدية ، أي : جاءوا أممهم مصحوبين بالبينات ، أو جاءوا البينات . وقرأ الجمهور : والزبر . وقرأ ابن عامر : " وبالزبر " ، وكذا هي في مصاحف أهل الشأم . وقرأ هشام بخلاف عنه وبالكتاب . وقرأ الجمهور : والكتاب . وإعادة حرف الجر في العطف هو على سبيل التأكيد . وكان ذكر الكتاب مفردا وإن كان مجموعا من حيث المعنى ؛ لتناسب الفواصل ، ولم يلحظ فيه أن يجمع كالمعطوف عليهما لذلك .
( كل نفس ذائقة الموت ) : تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا وأهلها ، والوعد بالنجاة في الآخرة بذكر الموت والفكرة فيه تهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره . ولما تقدم ذكر المكذبين الكاذبين على الله من اليهود والمنافقين وذكرهم المؤمنين ، نبهوا كلهم على أنهم ميتون ومآلهم إلى الآخرة ، ففيها يظهر الناجي والهالك ، وأن ما تعلقوا به في الدنيا من مال وأهل وعشيرة إنما هو على سبيل التمتع المغرور به ، كلها تضمحل وتزول ولا يبقى إلا ما عمله الإنسان ، وهو يوفاه في الآخرة ، يوفى على طاعته ومعصيته .
وقال محمد بن عمر الرازي : في هذه الآية دلالة على أن النفس لا تموت بموت البدن ، وعلى أن النفس . غير البدن . انتهى . وهذه مكابرة في الدلالة ، فإن ظاهر الآية يدل على أن النفس تموت . قال أيضا : لفظ النفس مختص بالأجسام . انتهى . وقرأ اليزيدي : " ذائقة " بالتنوين ، " الموت " بالنصب ، وذلك فيما نقله عنه . ونقلها الزمخشري ابن عطية عن أبي حيوة ، ونقلها غيرهما عن ، الأعمش ويحيـى ، وابن أبي إسحاق . وقرأ فيما نقله الأعمش " ذائقة " بغير تنوين " الموت " بالنصب ومثله : الزمخشري
[ ص: 134 ]
فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا
حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، كقراءة من قرأ ( قل هو الله أحد الله الصمد ) بحذف التنوين من أحد ( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) لفظ التوفية يدل على التكميل يوم القيامة ، فما قبله من كون القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، هو بعض الأجور . وما لم يدخل الجنة أو النار فهو غير موفى . والذي يدل عليه السياق أن الأجور هي ما يترتب على الطاعة والمعصية ، وإن كان الغالب في الاستعمال أن الأجر هو ما يترتب على عمل الطاعة ؛ ولهذا قال ابن عطية : وخص تعالى ذكر الأجور لشرفها ، وإشارة إلى مغفرته لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته . ولا محالة أن يوم القيامة يقع فيه الأجور وتوفية العقوبات . انتهى .
( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) : علق الفوز - وهو نيل الحظ من الخير والنجاة من الشر - على التنحية من النار ودخول الجنة ؛ لأن من لم ينج عن النار بل أدخلها - وإن كان سيدخل الجنة - لم يفز كمن يدخلها من أهل الكبائر . ومن نحي عنها ولم يدخل الجنة كأصحاب الأعراف ، لم يفز أيضا . وروي في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " محمدا رسول الله ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " . قيل : فاز معناه نجا . وقيل : سبق . وقيل : غنم . من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن
( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) : المتاع : ما يستمتع به من آلات وأموال وغير ذلك . وفسره عكرمة : بالفأس ، والقصعة ، والقدر . وفسره الحسن فقال : هو كخضرة النبات ، ولعب البنات ، لا حاصل له ، يلمع لمع السراب ، ويمر مر السحاب ، وهذا من عكرمة والحسن على سبيل التمثيل . قال : شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ، ثم يتبين له فساده ورداءته ، والشيطان هو المدلس الغرور . انتهى . وقال الزمخشري : إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ . وقال سعيد بن جبير عكرمة أيضا : متاع الغرور القوارير التي لا بد لها من الانكسار والفساد ، فكذلك أمر الدنيا كله . وهذا تشبيه من عكرمة . والغرور : الخدع والترجئة بالباطل . وقال عبد الرحمن بن سابط : متاع الغرور كزاد الراعي ، يزود الكف من التمر والشيء من الدقيق يشرب عليه اللبن ، يعني : أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره . ومن كلام العرب : عش ولا تغتر . أي : لا تجتزئ بما لا يكفيك . وقال : الغرور ما رأيت له ظاهرا حسنا ، وله باطن مكروه أو مجهول ، والشيطان غرور ؛ لأنه يحمل على مخبآت الناس ، ووراء ذلك ما يسوء . قال : ومن هذا بيع الغرور ، وهو ما كان له ظاهر بيع وباطن مجهول . وقال ابن عرفة أبو مسلم الأصبهاني : وما الحياة الدنيا بحذف المضاف تقديره : وما نفع الحياة الدنيا إلا نفع الغرور . أي : نفع يغفل عن النفع الحقيقي لدوامه ، وهو النفع في الحياة الأخروية . وإضافة المتاع إلى الغرور إن جعل الغرور جمعا فهو كقولك : نفع الغافلين . وإن جعل مصدرا فهو كقولك : نفع إغفال ، أي إهمال ، فيورث الغفلة عن التأهب للآخرة . وقرأ عبد الله بن عمر : " الغرور " بفتح الغين ، وفسر بالشيطان ، ويحتمل أن يكون فعولا بمعنى مفعول ، أي : متاع المغرور ، أي المخدوع .
وتضمنت هذه الآيات التجنيس المغاير في قوله : " الذين قالوا " ، والمماثل في : " قالوا " ، " وسنكتب ما قالوا " ، وفي : " كذبوك فقد كذب " . والطباق في : فقير وأغنياء ، وفي : الموت والحياة ، وفي : " زحزح عن النار وأدخل الجنة " . والالتفات في : سنكتب ونقول ، وفي : " أجوركم " ، إذ تقدمه " كل نفس " . والتكرار في : لفظ الجلالة ، وفي البينات . والاستعارة في : سنكتب على قول من لم يجعل الكتابة حقيقة ، وفي : قدمت أيديكم ، وفي : تأكله النار ، وفي : ذوقوا [ ص: 135 ] وذائقة ، والمذهب الكلامي في " فلم قتلتموهم " . والاختصاص في : أيديكم . والإشارة في : ذلك ، والشرط المتجوز فيه . والزيادة للتوكيد في : وبالزبر وبالكتاب في قراءة من قرأ كذلك . والحذف في مواضع .