[ ص: 328 ] تقدم الكلام في " لا " قبل القسم في قوله : فلا أقسم بمواقع النجوم وقراءة الحسن : لأقسم بجعلها لا ما دخلت على أقسم . وقيل : " لا " هنا نفي للقسم ، أي : لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك ، وعلى هذا فجوابه جواب القسم . قال مقاتل : سبب ذلك أن الوليد قال : إن محمدا ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال : كاهن . فرد الله عليهم بقوله : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون عام في جميع مخلوقاته . وقال عطاء : ما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون من أسرار القدرة . وقيل : وما لا تبصرون : الملائكة . وقيل : الأجساد والأرواح . ( إنه ) أي : إن القرآن لقول رسول كريم : هو محمد - صلى الله عليه وسلم - في قول الأكثرين ، ويؤيده : وما هو بقول شاعر وما بعده ، ونسب القول إليه ; لأنه هو مبلغه والعامل به . وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة : هو جبريل - عليه السلام - إذ هو الرسول عن الله .
ونفى تعالى أن يكون قول شاعر لمباينته لضروب الشعر . ولا قول كاهن ; لأنه ورد بسبب الشياطين . وانتصب ( قليلا ) على أنه صفة لمصدر محذوف أو لزمان محذوف ، أي : تؤمنون إيمانا قليلا أو زمانا قليلا . وكذا التقدير في : قليلا ما تذكرون والقلة هو إقرارهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا : الله . وقال ابن عطية : ونصب ( قليلا ) بفعل مضمر يدل عليه ( تؤمنون ) وما تحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة . ويحتمل أن تكون " ما " مصدرية ، والمتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي ; لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا ، إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو حق صواب . انتهى . أما قوله : ونصب " قليلا " بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون فلا يصح ; لأن ذلك الفعل الدال عليه ( تؤمنون ) إما أن تكون ما نافية أو مصدرية ، كما ذهب إليه . فإن كانت نافية ، فذلك الفعل المضمر الدال عليه تؤمنون المنفي بما يكون منفيا ، فيكون التقدير : ما تؤمنون قليلا ما تؤمنون ، والفعل المنفي بما لا يجوز حذفه ولا حذف ما لا يجوز زيدا ما أضربه ، على تقدير ما أضرب زيدا ما أضربه ، وإن كانت مصدرية كانت " ما " في موضع رفع على الفاعلية بـ ( قليلا ) أي : قليلا إيمانكم ، ويبقى " قليلا " لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له ; وإما في موضع رفع على الابتداء ، فيكون مبتدأ لا خبر له ; لأن ما قبله منصوب لا مرفوع . وقال : والقلة في معنى العدم ، أي : لا تؤمنون ولا تذكرون البتة ، والمعنى : ما أكفركم وما أغفلكم . انتهى . ولا يراد بـ ( قليلا ) هنا النفي المحض ، كما زعم ، وذلك لا يكون إلا في أقل ، نحو : أقل رجل يقول ذلك إلا زيدا ، وفي قل نحو : قل رجل يقول ذلك إلا زيدا . وقد تستعمل في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين ، نحو ما جوزوا في قوله : الزمخشري
قليل بها الأصوات إلا بغامها
أما إذا كان منصوبا نحو : قليلا ضربت ، أو قليلا ما ضربت ، على أن تكون ما مصدرية ، فإن ذلك لا يجور ; لأنه في : قليلا ضربت [ ص: 329 ] منصوب بـ ( ضربت ) ولم تستعمل العرب قليلا إذا انتصب بالفعل نفيا ، بل مقابلا لكثير . وأما في ( قليلا ما ضربت ) على أن تكون ما مصدرية ، فتحتاج إلى رفع قليل ; لأن ما المصدرية في موضع رفع على الابتداء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما . و الجحدري والحسن : يؤمنون ، يذكرون : بالياء فيهما . وباقي السبعة بتاء الخطاب . و أبي : بياءين . وقرأ الجمهور : ( تنزيل ) بالرفع . وأبو السمال : تنزيلا بالنصب . وقرأ الجمهور : ولو تقول والتقول أن يقول الإنسان عن آخر إنه قال شيئا لم يقله . وقرأ ذكوان وابنه محمد : يقول مضارع قال ، وهذه القراءة معترضة بما صرحت به قراءة الجمهور . وقرئ : ولو تقول مبنيا للمفعول ، وحذف الفاعل وقام المفعول مقامه ، وهو ( بعض ) إن كان قرئ مرفوعا . وإن كان قرئ منصوبا بعلينا قام مقام الفاعل ، والمعنى : ولو تقول علينا متقول . ولا يكون الضمير في تقول عائد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لاستحالة وقوع ذلك منه ، فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه ، عليه الصلاة والسلام . والأقاويل جمع الجمع ، وهو أقوال كبيت وأبيات وأباييت ، قال : وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول . والظاهر أن قوله : ( باليمين ) المراد به الجارحة . فقال الزمخشري الحسن : المعنى قطعناه عبرة ونكالا ، والباء على هذا زائدة . وقيل : الأخذ على ظاهره . قال : والمعنى ولو ادعى مدع علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا ، كما تفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته ، وخص اليمين على اليسار ; لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحفه بالسيف ، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف ، أخذ بيمينه . الزمخشري
ومعنى لأخذنا منه باليمين : لأخذنا بيمينه ، كما أن قوله تعالى لقطعنا منه الوتين : لقطعنا وتينه . انتهى ، وهو قول للمتقدمين حسنه بتكثير ألفاظه ومصاغها . قالوا : المعنى لأخذنا بيده التي هي اليمين على جهة الإذلال والصغار ، كما يقول السلطان إذا أراد عقوبة رجل : يا غلام خذ بيده وافعل كذا ، قاله أو قريبا منه الزمخشري . وقيل : اليمين هنا مجاز . فقال الطبري : باليمين : بالقوة ، معناه لنلنا منه عقابه بقوة منا . وقال ابن عباس مجاهد : بالقدرة . وقال : عاقبناه بالحق ومن على هذا صلة . وقال السدي : لقبضنا بيمينه عن التصرف . وقيل : لنزعنا منه قوته . وقيل : لأذللناه وأعجزناه . نفطويه
ثم لقطعنا منه الوتين قال : وهو نياط القلب . وقال ابن عباس مجاهد : حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع . والموتون الذي قطع وتينه ، والمعنى : لو تقول علينا لأذهبنا حياته معجلا ، والضمير في عنه الظاهر أنه يعود على الذي تقول ، ويجوز أن يعود على القتل ، أي : لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه ، والخطاب في " منكم " للناس ، والظاهر في ( حاجزين ) أن يكون خبرا لـ ( ما ) على لغة الحجاز ; لأن حاجزين هو محط الفائدة ، ويكون " منكم " لو تأخر لكان صفة لأحد ، فلما تقدم صار حالا ، وفي جواز هذا نظر . أو يكون للبيان ، أو تتعلق بحاجزين ، كما تقول : ما فيك زيد راغبا ، ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر " ما " . وقال الحوفي والزمخشري : " حاجزين " نعت لأحد على اللفظ ، وجمع على المعنى ; لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، ومنه : لا نفرق بين أحد من رسله وقوله : لستن كأحد من النساء مثل بهما ، وقد تكلمنا على ذينك في موضعيهما . وفي الحديث : " لم تحل لأحد سود الرؤوس قبلكم " . وإذا كان " حاجزين " نعتا فـ " من أحد " مبتدأ والخبر " منكم " ، ويضعف هذا القول ; لأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته " منكم " ، فلا يتسلط على الحجز . وإذا كان ( حاجزين ) [ ص: 330 ] خبرا . تسلط النفي عليه وصار المعنى : ما أحد منكم يحجزه عن ما يريد به من ذلك . الزمخشري وإنه لتذكرة أي : وإن القرآن أو الرسول ، صلى الله عليه وسلم . وإنا لنعلم أن منكم مكذبين : وعيد ، أي : مكذبين بالقرآن أو بالرسول ، صلى الله عليه وسلم . وإنه لحسرة أي : القرآن من حيث كفروا به ، ويرون من آمن به ينعم وهم معذبون . وقال مقاتل : وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم ، عاد الضمير على المصدر المفهوم من قوله : ( مكذبين ) كقوله :
إذا نهى السفيه جرى إليه
أي : للسفه . ( وإنه ) أي : وإن القرآن لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم وسبق الكلام على إضافة ( حق ) إلى اليقين في آخر الواقعة .