" أما " حرف تفصيل فصل بها ما وقع في يوم العرض . ويظهر أن من قضي عليه دخول النار من الموحدين ، أنه في يوم العرض يأخذ [ ص: 325 ] كتابه بيمينه مع الناجين من النار ، ويكون ذلك يأنس به مدة العذاب . وقيل : لا يأخذه حتى يخرج من النار ، وإيمانه أنيسه مدة العذاب . قيل : وهذا يظهر ; لأن من يسار به إلى النار كيف يقول : هاؤم اقرءوا كتابيه ؟ وهل هذا إلا استبشار وسرور ؟ فلا يناسب دخول النار . وهاؤم إن كان مدلولها خذ ، فهي متسلطة على " كتابيه " بغير واسطة ، وإن كان مدلولها تعالوا ، فهي متعدية إليه بواسطة إلى ، و " كتابيه " يطلبه هاؤم واقرءوا . فالبصريون يعملون " اقرءوا " ، والكوفيون يعملون " هاؤم " ، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين اسم الفعل والقسم . وقرأ الجمهور : ( كتابيه ) و ( حسابيه ) في موضعيهما ، و ( ماليه ) و ( سلطانيه ) وفي القارعة : ( ماهيه ) بإثبات هاء السكت وقفا ووصلا لمراعاة خط المصحف . وقرأ ابن محيصن : بحذفها وصلا ووقفا وإسكان الياء ، وذلك كتابي وحسابي ومالي وسلطاني ، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في ( ماهيه ) في القارعة . وابن أبي إسحاق : بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف ، وطرحهما والأعمش حمزة في مالي وسلطاني ، وما هي في الوصل لا في الوقف ، وفتح الياء فيهن . وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس كما قال ، بل ذلك منقول نقل التواتر فوجب قبوله .
إني ظننت أي : أيقنت ، ولو كان ظنا فيه تجويز لكان كفرا . فهو في عيشة راضية : ذات رضا . وقال أبو عبيدة : راضية مرضية ، كقوله : والفراء من ماء دافق أي : مدفوق . في جنة عالية أي : مكانا وقدرا . ( قطوفها ) أي : ما يجني منها ( دانية ) أي : قريبة التناول يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها . كلوا واشربوا أي : يقال ، و ( هنيئا ) تقدم الكلام عليه في أول النساء . وقال : هنيئا أكلا وشربا هنيئا ، أو هنيتم هنيئا على المصدر . انتهى . فقوله : أكلا وشربا هنيئا يظهر منه جعل هنيئا صفة لمصدرين ، ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك ، أي : أكلا هنيئا وشربا هنيئا . الزمخشري بما أسلفتم أي : قدمتم من العمل الصالح في الأيام الخالية : يعني أيام الدنيا . وقال مجاهد وابن جبير ووكيع : أيام الصوم ، أي : بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى . والظاهر العموم في قوله : وعبد العزيز بن رفيع بما أسلفتم أي : من الأعمال الصالحة .
يا ليتني لم أوت كتابيه : لما رأى فيه قبائح أفعاله ، وما يصير أمره إليه ، تمنى أنه لم يعطه ، وتمنى أنه لم يدر حسابه ، فإنه انجلى عنه حسابه عن ما يسوءه فيه ، إذ كان عليه لا له . يا ليتها أي : الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية أي : القاطعة لأمري ، فلم أبعث ولم أعذب ، أو يا ليت الحالة التي انتهيت إليها الآن كانت الموتة التي منها في الدنيا ; حيث رأى أن حالته التي هو فيها أمر مما ذاقه من الموتة ، وكيف لا وأمره آل إلى عذاب لا ينقطع ؟ ما أغنى عني ماليه : يجوز أن يكون نفيا محضا ، أخبر بذلك متأسفا على ماله حيث لم ينفعه ، ويجوز أن يكون استفهاما وبخ به نفسه وقررها عليه . هلك عني سلطانيه أي : حجتي ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي . وقال ابن زيد : يقول ذلك ملوك الدنيا . وكان عضد الدولة ابن بويه لما تسمى بملك الأملاك غلاب القدر لم يفلح وجن ، فكان لا ينطلق لسانه إلا بقوله : هلك عني سلطانيه .
( خذوه ) أي : يقال للزبانية خذوه فغلوه أي : اجعلوا في عنقه غلا ثم الجحيم صلوه . قال : ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ; لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس . يقال : صلي النار وصلاه النار . انتهى ، وإنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم ; لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر . وقد تكلمنا معه في ذلك عند قوله : الزمخشري إياك نعبد وليس ما قاله مذهبا لـ ولا لحذاق النحاة . وأما قوله : لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس ، فهذا قول سيبويه ابن زيد ، وهو مرجوح ، والراجح قول ومن ذكر معه : أن السلطان هنا هو الحجة التي كان يحتج بها في الدنيا ; لأن من أوتي كتابه بشماله [ ص: 326 ] ليس مختصا بالملوك ، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة . ابن عباس ثم في سلسلة ذرعها أي : قياسها ومقدار طولها سبعون ذراعا يجوز أن يراد ظاهره من العدد ، ويجوز أن يراد المبالغة في طولها وإن لم يبلغ هذا العدد . قال ابن عباس وابن جريج : بذراع الملك . وقال ومحمد بن المنكدر نوف البكالي وغيره : الذراع سبعون باعا ، في كل باع كما بين مكة والكوفة ، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح . وقال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هي . وقيل : بالذراع المعروف ، وإنما خاطبنا تعالى بما نعرفه ونحصله . وقال : لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص . ( ابن عباس فاسلكوه ) أي : أدخلوه ، كقوله : فسلكه ينابيع والظاهر أنه يدخله في السلسلة ، ولطولها تلتوي عليه من جميع جهاته ، فيبقى داخلا فيها مضغوطا حتى تعمه . وقيل : في الكلام قلب ، والسلسلة تدخل في فمه وتخرج من دبره ، فهي في الحقيقة التي تسلك فيه ، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج الكلام عن ظاهره ، إلا إن دل الدليل الصحيح على خلافه . وقال : والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية ، أي : لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة ، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم . ومعنى " ثم " الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم ، وما بينها وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدة . انتهى . وقد تقدم أن من مذهبه الحصر في تقديم المعمول ، وأما " ثم " فيمكن بقاؤها على موضوعها من المهلة الزمانية ، وأنه أولا يؤخذ فيغل . ولما لم يعذب بالعجلة ، صارت له استراحة ، ثم جاء تصلية الجحيم ، فكان ذلك أبلغ في عذابه ، إذ جاءه ذلك وقد سكنت نفسه قليلا ، ثم جاء سلكه بعد ذلك بعد كونه مغلولا معذبا في النار ، لكنه كان له انتقال من مكان إلى مكان ، فيجد بذلك بعض تنفس . فلما سلك في السلسلة كان ذلك أشد ما عليه من العذاب ، حيث صار لا حراك له ولا انتقال ، وأنه يضيق عليه غاية ، فهذا يصح فيه أن تكون " ثم " على موضوعها من المهلة الزمانية . الزمخشري
إنه كان لا يؤمن . بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله ، و " إنه " تعليل مستأنف ، كأن قائلا قال : لم يعذب هذا العذاب البليغ ؟ . وقيل : إنه كان لا يؤمن وعطف ولا يحض على لا يؤمن داخل في العلة ، وذلك يدل على عظم ذنب من لا يحض على إطعام المسكين ، إذ جعل قرين الكفر ، وهذا حكم ترك الحض ، فكيف يكون ترك الإطعام ؟ والتقدير على إطعام طعام المسكين . وأضاف الطعام إلى المسكين من حيث لم ينسبه إليه ، إذ يستحق المسكين حقا في مال الغني الموسر ولو بأدنى يسار . وللعرب في مكارمهم وإيثارهم آثار عجيبة غريبة بحيث لا توجد في غيرهم ، وما أحسن ما قيل فيهم :
على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل
وكان يحض امرأته على تكثير الرزق لأجل المساكين ، ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الآخر ؟ وقيل : هو منع الكفار . وقولهم : أبو الدرداء أنطعم من لو يشاء الله أطعمه يعني أنه إذا نفي الحض انتفى الإطعام بجهة الأولى ، كما صرح به في قوله تعالى : لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين . فليس له اليوم ها هنا حميم أي : صديق ملاطف واد الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو . وقيل : قريب يدفع عنه . ولا طعام إلا من غسلين قال : هو صديد أهل النار . وقال ابن عباس قتادة وابن زيد : هو والزقوم أخبث شيء وأبشعه . وقال الضحاك والربيع : هو شجر يأكله أهل النار . وقيل : هو شيء يجري من أهل النار ، يدل على هذا قوله في الغاشية : ليس لهم طعام إلا من ضريع فهما شيء واحد أو متداخلان . قيل : ويجوز أن يكونا متباينين ، وأخبر بكل واحد منهما عن طائفة غير الطائفة التي الآخر طعامها ، و " له " خبر ليس . وقال المهدوي : ولا يصح أن يكون " هاهنا " ، ولم يبين ما المانع [ ص: 327 ] من ذلك . وتبعه القرطبي في ذلك ، وقال : لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إلا من غسلين ، ولا يصح ذلك ; لأن ثم طعاما غيره ، و " هاهنا " متعلق بما في " له " من معنى الفعل . انتهى . وإذا كان ثم غيره من الطعام ، وكان الأكل غير أكل آخر ، صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين . وأما إن كان الضريع هو الغسلين ، كما قال بعضهم ، فلا تناقض ، إذ المحصور في الآيتين هو شيء واحد ، وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره ، وهو أنه إذا جعلنا الخبر " هاهنا " كان " له واليوم " متعلقين بما تعلق به الخبر ، وهو العامل في هاهنا ، وهو عامل معنوي ، فلا يتقدم معموله عليه . فلو كان العامل لفظيا جاز ، كقوله تعالى : ولم يكن له كفوا أحد فله متعلق بـ ( كفوا ) وهو خبر لـ ( يكن ) .
وقرأ الجمهور : " الخاطئون " بالهمز اسم فاعل من خطئ ، وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمدا لذلك ، والمخطئ الذي يفعله غير متعمد . وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في نقل : بياء مضمومة بدلا من الهمزة . وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع : بخلاف عنه ، بضم الطاء دون همز ، فالظاهر اسم فاعل من خطئ كقراءة من همز . وقال : ويجوز أن يراد : الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله . انتهى . فيكون اسم فاعل من خطا يخطو ، كقوله تعالى : الزمخشري ولا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان خطا إلى المعاصي .