( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) الجملة والتي تليها تقدم الكلام عليهما . ولما تقدم أمره - عليه السلام - إياهم بتقوى الله ، أمرهم ثانيا بتقوى من أوجدهم وأوجد من قبلهم ، تنبيها على أن من أوجدهم قادر على أن يعذبهم ويهلكهم . وعطف عليهم ( والجبلة ) إيذانا بذلك ، فكأنه قيل : يصيركم إلى ما صار إليه أولوكم ، فاتقوا الله الذي تصيرون إليه . وقرأ الجمهور : " والجبلة " بكسر الجيم والباء وشد اللام . وقرأ أبو حصين ، ، والأعمش والحسن : بخلاف عنه ، بضمها والشد للام . وقرأ السلمي : " والجبلة " ، بكسر الجيم وسكون الباء ، وفي نسخة عنه : فتح الجيم وسكون الباء ، وهي من جبلوا على كذا ، أي خلقوا . قيل : وتشديد اللام في القراءتين في بناءين للمبالغة . وعن : الجبلة : عشرة آلاف . ( وما أنت ) جاء هنا بالواو ، وفي قصة ابن عباس هود : ( ما أنت ) بغير واو . فقال : إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان ، كلاهما مخالف للرسالة عندهم ، التسحير والبشرية ، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا ، ولا يجوز أن يكون بشرا ، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد ، وهو كونه مسحرا ، ثم قرر بكونه بشرا . انتهى . الزمخشري
( وإن نظنك لمن الكاذبين ) إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام في " لمن " هي الفارقة ، خلافا للكوفيين ، فـ " إن " عندهم نافية واللام بمعنى إلا ، وتقدم الخلاف في نحو ذلك في قوله : ( وإن كانت لكبيرة ) في البقرة . ثم طلبوا منه إسقاط كسف ، من السماء عليهم ، وليس له ذلك ، فالمعنى : إن كنت صادقا ، فادفع الذي أرسلك أن يسقط علينا كسفا ، أي قطعة ، أو قطعا على حسب التسكين والتحريك . وقال : وكلاهما جمع كسفة ، نحو : قطع وشذر . وقيل : الكسف والكسفة ، كالريع والريعة ، وهي القطعة وكسفة : قطعة ، والسماء : السحاب أو المظلة . ودل طلبهم ذلك على التصميم على الجحود والتكذيب . ولما طلبوا منه ما طلبوا ، أحال علم ذلك إلى الله - تعالى - وأنه هو العالم بأعمالكم ، وبما تستوجبون عليها من العقاب ، فهو يعاقبكم بما شاء . الزمخشري
( فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة ) وهو نحو مما اقترحوا . ولم يذكر الله كيفية عذاب يوم الظلة ، حتى إن قال : من حدثك ما عذاب يوم الظلة فقد كذب ، وذكر في حديثها تطويلات . فروى أنه حبس عنهم الريح سبعا ، فابتلوا بحر عظيم يأخذ بأنفاسهم ، لا ينفعهم ظل ولا ماء ، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية ، فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت [ ص: 39 ] عليهم نارا فأحرقتهم . وكرر ما كرر في أوائل هذه القصص ، تنبيها على أن طريقة الأنبياء واحدة لا اختلاف فيها ، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ورفض ما سواه ، وأنهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشتركون في ذلك ، وأن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - هو ما جاءت به الرسل قبله ، وتلك عادة الأنبياء . ابن عباس
قال ابن عطية : وجاءت الألفاظ في دعاء كل واحد من هؤلاء الأنبياء واحدة بعينها ، إذ كان الإيمان المدعو إليه معنى واحدا بعينه . وقال : ( فإن قلت ) : كيف كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر ؟ ( قلت ) : كل قصة منها كتنزيل برأسه ، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها . فكانت كل واحدة منها تدلي بحق ، إلى أن تفتتح بمثل ما افتتحت به صاحبتها ، وأن تختتم بمثل ذلك مما اختتمت به ، ولأن التكرير تقرير للمعاني في النفوس ، وتثبيت لها في الصدور ، ولأن هذه القصص طرقت بهذا آذان وقر عن الإنصات للحق ، وقلوب غلف عن تدبره ، فأوثرت بالوعظ والتذكير ، وروجعت بالترديد والتكرير . الزمخشري