( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ( 17 ) )
يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده ، من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو ، كما قال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) [ الروم : 30 ] ، وفي الصحيحين عن قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . وفي صحيح " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " مسلم عن عياض بن حمار ، . وفي المسند والسنن : عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 312 ] قال : " يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " الحديث ، فالمؤمن باق على هذه الفطرة . [ وقوله : ( " كل مولود يولد على هذه الملة ، حتى يعرب عنه لسانه " ويتلوه شاهد منه ) أي ] : وجاءه شاهد من الله ، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء ، من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة المختتمة بشريعة محمد ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين . ولهذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، ، وأبو العالية والضحاك ، ، وإبراهيم النخعي وغير واحد في قوله تعالى : ( والسدي ، ويتلوه شاهد منه ) إنه جبريل عليه السلام .
وعن علي ، والحسن ، وقتادة : هو محمد ، صلى الله عليه وسلم .
وكلاهما قريب في المعنى; لأن كلا من جبريل ومحمد ، صلوات الله عليهما ، بلغ رسالة الله تعالى ، فجبريل إلى محمد ، ومحمد إلى الأمة .
وقيل : هو علي . وهو ضعيف لا يثبت له قائل ، والأول والثاني هو الحق; وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة ، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة ، والفطرة تصدقها وتؤمن بها; ولهذا قال تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ) وهو القرآن ، بلغه جبريل إلى النبي [ محمد ] صلى الله عليه وسلم ، وبلغه النبي محمد إلى أمته .
ثم قال تعالى : ( ومن قبله كتاب موسى ) أي : ومن قبل [ هذا ] القرآن كتاب موسى ، وهو التوراة ، ( إماما ورحمة ) أي : أنزل الله تعالى إلى تلك الأمة إماما لهم ، وقدوة يقتدون بها ، ورحمة من الله بهم . فمن آمن بها حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن; ولهذا قال تعالى : ( أولئك يؤمنون به ) .
ثم قال تعالى متوعدا لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه : ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) أي : ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركيهم : أهل الكتاب وغيرهم ، من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم ، ممن بلغه القرآن ، كما قال تعالى : ( لأنذركم به ومن بلغ ) [ الأنعام : 19 ] ، وقال تعالى : ( قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) [ الأعراف : 158 ] . وقال تعالى : ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) وفي صحيح مسلم ، من حديث شعبة ، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أبي موسى الأشعري . [ ص: 313 ] " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار "
وقال أيوب السختياني ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) قال : " من الملل كلها " . عن سعيد بن جبير قال : كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجهه إلا وجدت مصداقه - أو قال : تصديقه - في القرآن ، فبلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، فلا يؤمن بي إلا دخل النار " . فجعلت أقول : أين مصداقه في كتاب الله ؟ قال : وقلما سمعت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وجدت له تصديقا في القرآن ، حتى وجدت هذه الآية : (
قوله : ( فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ) أي : القرآن حق من الله ، لا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى : ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ) [ السجدة : 1 ، 2 ] ، وقال تعالى : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه [ هدى للمتقين ] ) [ البقرة : 1 ، 2 ] .
وقوله : ( ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) كما قال تعالى : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) [ يوسف : 103 ] ، وقال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) [ الأنعام : 116 ] ، وقال تعالى : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) [ سبأ : 20 ] .