ذكر : سبب هذه البيعة العظيمة
قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله ، إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظي عليها ، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته .
[ ص: 332 ] فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف . فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين أن عثمان قد قتل .
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين بلغه أن عثمان قد قتل : " لا نبرح حتى نناجز القوم " . ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى البيعة . فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت . وكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبايعهم على الموت ، ولكن بايعنا على ألا نفر .
فبايع الناس ، ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة ، فكان جابر يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته ، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس ، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الذي كان من أمر عثمان باطل .
وذكر ابن لهيعة عن الأسود . عن عروة بن الزبير قريبا من هذا السياق ، وزاد في سياقه : . أن قريشا بعثوا وعندهم عثمان [ بن عفان ] سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين بعض المسلمين وبعض المشركين ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل من الفريقين من عنده من الرسل ، ونادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بالبيعة ، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا ، فسار المسلمون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا أبدا ، فأرعب ذلك المشركين ، وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين ، ودعوا إلى الموادعة والصلح
وقال الحافظ : أخبرنا أبو بكر البيهقي علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا تمتام ، حدثنا الحسن بن بشر ، حدثنا الحكم بن عبد الملك ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : . لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان [ رضي الله عنه ] رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة ، فبايع الناس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله " . فضرب بإحدى يديه على الأخرى ، فكانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم
[ ص: 333 ] قال ابن هشام : حدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له ، عن أبي مليكة ، عن ابن عمر قال : . بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمان ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى
وقال : فذكر عبد الملك بن هشام النحوي ، عن وكيع إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي : . أن أول من بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي
وقال : حدثنا أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي سفيان ، حدثنا ابن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : . هذا لما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى البيعة ، كان أول من انتهى إليه أبو سنان [ الأسدي رضي الله عنه ] ، فقال : ابسط يدك أبايعك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " علام تبايعني ؟ " . فقال أبو سنان : على ما في نفسك أبو سنان [ بن ] وهب الأسدي [ رضي الله عنه ] .
وقال : حدثنا البخاري شجاع بن الوليد ، سمع النضر بن محمد : حدثنا صخر [ بن الربيع ] ، عن نافع ، قال : إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر ، وليس كذلك ، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع عند الشجرة ، وعمر لا يدري بذلك ، فبايعه عبد الله ، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر ، وعمر يستلئم للقتال ، فأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع تحت الشجرة ، فانطلق ، فذهب معه حتى بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر .
ثم قال : وقال البخاري هشام بن عمار : حدثنا ، حدثنا الوليد بن مسلم عمر بن محمد العمري ، أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، أن الناس كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية قد تفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس محدقون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال - يعني عمر - : يا عبد الله ، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فوجدهم يبايعون ، فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع .
وقد أسنده عن البيهقي أبي عمرو الأديب ، عن ، عن أبي بكر الإسماعيلي الحسن بن سفيان ، عن : حدثني دحيم فذكره . الوليد بن مسلم
وقال الليث ، عن ، عن أبي الزبير جابر ، قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه ، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، وقال : بايعناه على ألا نفر ، ولم نبايعه على الموت . رواه مسلم عن قتيبة عنه .
وروى مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن ، عن يزيد بن زريع خالد ، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج ، عن معقل بن يسار ، قال : لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس ، وأنا رافع [ ص: 334 ] غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة ، قال : ولم نبايعه على الموت ، ولكن بايعناه على ألا نفر .
وقال : حدثنا البخاري المكي بن إبراهيم ، عن ، عن يزيد بن أبي عبيد ، قال : بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة . قال يزيد : قلت : يا أبا مسلم ، على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ ؟ قال : على الموت . سلمة بن الأكوع
وقال أيضا : حدثنا البخاري أبو عاصم ، حدثنا عن يزيد بن أبي عبيد سلمة ، قال : بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ثم تنحيت ، فقال : " يا سلمة ألا تبايع ؟ " قلت : بايعت ، قال : " أقبل فبايع " . فدنوت فبايعته . قلت : علام بايعته يا سلمة ؟ قال : على الموت . وأخرجه مسلم من وجه آخر عن . وكذا روى يزيد بن أبي عبيد عن البخاري عباد بن تميم ، أنهم بايعوه على الموت .
وقال : أخبرنا البيهقي أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو الفضل بن إبراهيم ، حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو ، حدثنا ، عن عكرمة بن عمار اليمامي إياس بن سلمة ، عن أبيه سلمة بن الأكوع وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ) الآية [ الفتح : 24 ] . قال : قدمنا الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن أربع عشرة مائة ، وعليها خمسون شاة لا ترويها ، فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جباها - يعني الركي - فإما دعا وإما بصق فيها ، فجاشت ، فسقينا واستقينا . قال : ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى البيعة في أصل الشجرة . فبايعته أول الناس ، ثم بايع وبايع ، حتى إذا كان في وسط الناس قال - صلى الله عليه وسلم - : " بايعني يا سلمة " . قال : قلت : يا رسول الله ، قد بايعتك في أول الناس . قال : " وأيضا " . قال : ورآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزلا فأعطاني حجفة - أو درقة - ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال - صلى الله عليه وسلم - : " ألا تبايع يا سلمة ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم . قال : " وأيضا " . فبايعته الثالثة ، فقال : " يا سلمة ، أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك ؟ " . قال : قلت : يا رسول الله ، لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه : فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : " إنك كالذي قال الأول : اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي " قال : ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا . قال : وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ، أسقي فرسه وأحسه وآكل من طعامه ، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله . فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة ، واختلط بعضنا ببعض ، أتيت شجرة فكسحت شوكها ، ثم اضطجعت في أصلها في ظلها ، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبغضتهم ، وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا ، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين ، قتل ابن زنيم . فاخترطت سيفي ، فشددت على أولئك الأربعة وهم [ ص: 335 ] رقود ، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي ، ثم قلت : والذي كرم وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ، قال : ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له : " مكرز " من المشركين يقوده ، حتى وقفنا بهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعين من المشركين ، فنظر إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه " ، فعفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله [ عز وجل ] : (
وهكذا رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه بسنده نحوه ، أو قريبا منه .
وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة ، عن طارق ، عن ، قال : كان أبي ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة . قال : فانطلقنا من قابل حاجين ، فخفي علينا مكانها ، فإن كان تبينت لكم ، فأنتم أعلم . سعيد بن المسيب
وقال أبو بكر الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزبير ، حدثنا جابر ، قال : لما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى البيعة ، وجدنا رجلا منا يقال له " الجد بن قيس " مختبئا تحت إبط بعيره " .
رواه مسلم من حديث ، عن ابن جريج ابن الزبير ، به .
وقال أيضا : حدثنا الحميدي سفيان ، عن عمرو ، سمع جابرا ، قال : . قال كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنتم خير أهل الأرض اليوم " جابر : لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة . قال سفيان : إنهم اختلفوا في موضعها . أخرجاه من حديث سفيان .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا الليث . عن ، عن أبي الزبير جابر ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " . لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي ، حدثنا سعد بن عمرو الأشعثي ، حدثنا محمد بن ثابت العبدي ، عن خداش بن عياش ، عن ، عن أبي الزبير جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " . يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر " . قال : فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره ، فقلنا : تعال فبايع . فقال : أصيب بعيري أحب إلي من أن أبايع
[ ص: 336 ] وقال عبد الله بن أحمد : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي حدثنا قرة ، عن ، عن أبي الزبير جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " . رواه من يصعد الثنية ، ثنية المرار ، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل " . فكان أول من صعد خيل بني الخزرج ، ثم تبادر الناس بعد ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر " . فقلنا : تعال يستغفر لك رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] . فقال : والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم . فإذا هو رجل ينشد ضالة مسلم عن عبيد الله ، به .
وقال : أخبرني ابن جريج أبو الزبير ، أنه سمع جابرا يقول : أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند حفصة : " وإن منكم إلا واردها ) [ مريم : 71 ] ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قد قال الله : ( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) [ مريم : 72 ] ، رواه لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد " . قالت : بلى يا رسول الله . فانتهرها ، فقالت لحفصة : ( مسلم .
وفيه أيضا عن قتيبة ، عن الليث ، عن ، عن أبي الزبير جابر ; . أن عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا ، فقال : يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كذبت ، لا يدخلها ; فإنه قد شهد بدرا والحديبية "
ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) [ الفتح : 10 ] ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) [ الفتح : 18 ] .