الأولى : قال عطاء : لما نزلت وإلهكم إله واحد قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد ، فنزلت إن في خلق السماوات والأرض . ورواه سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال : لما نزلت وإلهكم إله واحد قالوا هل من دليل على ذلك ؟ فأنزل الله تعالى إن في خلق السماوات والأرض فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد ، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع . وجمع السماوات لأنها أجناس مختلفة ، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى . ووحد الأرض لأنها كلها تراب ، والله تعالى أعلم .
فآية السماوات : ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها ، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة . ولو جاء نبي فتحدي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا . ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية .
وآية الأرض : بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها .
[ ص: 181 ] الثانية : قوله تعالى : واختلاف الليل والنهار قيل : اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم . وقيل : اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر . والليل جمع ليلة ، مثل تمرة وتمر ونخلة ونخل . ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى ، وهو مما شذ عن قياس الجموع ، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر ، وكأن ليالي في القياس جمع ليلاة . وقد استعملوا ذلك في الشعر قال :
في كل يوم [ وما ] وكل ليلاة
وقال آخر :
في كل يوم ما وكل ليلاه حتى يقول كل راء إذ رآه
يا ويحه من جمل ما أشقاه
قال في المجمل : ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا ، ولا أعرفه والنهار يجمع نهر وأنهرة . قال ابن فارس أحمد بن يحيى ثعلب : نهر جمع نهر وهو جمع الجمع للنهار ، وقيل النهار اسم مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر ، كقولك الضياء ، يقع على القليل والكثير . والأول أكثر ، قال الشاعر :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر
قال : النهار معروف ، والجمع نهر وأنهار . ويقال : إن النهار يجمع على النهر . والنهار : ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس . ورجل نهر : صاحب نهار . ويقال إن النهار فرخ الحبارى . قال ابن فارس النضر بن شميل : أول النهار طلوع الشمس ، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار . وقال ثعلب : أوله عند العرب طلوع الشمس ، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت .
والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد
وأنشد قول عدي بن زيد :
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
وأنشد الكسائي :
إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليك فسلمي
قال الزجاج في كتاب الأنواء : أول النهار ذرور الشمس . وقسم ابن الأنباري الزمن ثلاثة [ ص: 182 ] أقسام : قسما جعله ليلا محضا ، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . وقسما جعله نهارا محضا ، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها . وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار .
قلت : والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، كما رواه في المجمل ، يدل عليه ما ثبت في صحيح ابن فارس مسلم عدي بن حاتم قال : لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال له عدي : يا رسول الله ، إني أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالا أبيض وعقالا أسود ، أعرف بهما الليل من النهار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار . فهذا الحديث يقضي أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وهو مقتضى الفقه في الأيمان ، وبه ترتبط الأحكام . فمن عن حنث ، وعلى الأول لا يحنث . وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الفيصل في ذلك والحكم . وأما على ظاهر اللغة وأخذه من السنة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار ، كما قال [ هو حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه قبل طلوع الشمس قيس بن الخطيم ] :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
وقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول ، خرجه . وسيأتي في آي الصيام إن شاء الله تعالى . النسائي
الثالثة : قوله تعالى : والفلك التي تجري في البحر الفلك : السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد ، ويذكر ويؤنث . وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع ، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر ، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم : فلكان . والفلك المفرد مذكر ، قال تعالى : في الفلك المشحون فجاء به مذكرا ، وقال : والفلك التي تجري في البحر فأنث . ويحتمل واحدا وجمعا ، وقال : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة فجمع ، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر ، وإلى السفينة فيؤنث .
[ ص: 183 ] وقيل : واحده فلك ، مثل أسد وأسد ، وخشب وخشب ، وأصله من الدوران ، ومنه : فلك السماء التي تدور عليه النجوم . وفلكت الجارية استدار ثديها ، ومنه فلكة المغزل . وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور .
ووجه الآية في الفلك : تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها . وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى ، وقال له جبريل : اصنعها على جؤجؤ الطائر ، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل . فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله . ابن العربي
الرابعة : هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة ، كالحج والجهاد . ومن السنة حديث قال : أبي هريرة . الحديث . وحديث جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء أنس بن مالك في قصة ، أخرجهما الأئمة : أم حرام مالك وغيره . روى حديث أنس عنه جماعة عن عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنس ، ورواه عن بشر بن عمر مالك عن إسحاق عن أنس عن جعله من مسند أم حرام لا من مسند أم حرام أنس . هكذا حدث عنه به ، ففيه دليل واضح على بندار محمد بن بشار ، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب . وروي عن ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء عمر بن الخطاب رضي الله عنهما المنع من ركوبه . والقرآن والسنة يرد هذا القول ، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا له : إنا نركب البحر . وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض وإليها المفزع . وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها ، وأما في أداء الفرائض فلا . ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين ، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها ، فسهل الله سبيله بالفلك ، قاله وعمر بن عبد العزيز . قال ابن العربي أبو عمر : وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب [ ص: 184 ] للحج في البحر ، وهو للجهاد لذلك أكره . والقرآن والسنة يرد قوله ، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال : إنما كره ذلك مالك لأن السفن بالحجاز صغار ، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها ، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا ، فلذلك كره مالك ذلك . وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس . قال : والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين ، نساء كانوا أو رجالا ، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن ، ولم يخص بحرا من بر .
قلت : فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا : العبادة والتجارة ، فهي الحجة وفيها الأسوة . إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم ، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق ، وآخر يشق عليه ويضعف به ، كالمائد المفرط الميد ، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض ، فالأول ذلك له جائز ، والثاني يحرم عليه ويمنع منه . ولا خلاف بين أهل العلم وهي :
الخامسة : إن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة ، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب ، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم ، والذين يهلكون فيه محصورون .
السادسة : أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم . وبركوب البحر تكتسب الأرباح ، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا . وقد قال بعض من طعن في الدين : إن الله تعالى يقول في كتابكم : قوله تعالى : بما ينفع الناس ما فرطنا في الكتاب من شيء فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك ؟ فقيل له في قوله : بما ينفع الناس .
السابعة : يعني بها الأمطار التي بها [ ص: 185 ] إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق ، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله ، كما قال تعالى : قوله تعالى : وما أنزل الله من السماء من ماء فأسكناه في الأرض .
الثامنة : أي فرق ونشر ، ومنه قوله تعالى : وبث فيها من كل دابة كالفراش المبثوث ودابة تجمع الحيوان كله ، وقد أخرج بعض الناس الطير ، وهو مردود ، قال الله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته ، قال الأعشى :
دبيب قطا البطحاء في كل منهل
وقال علقمة بن عبدة :
صواعقها لطيرهن دبيب
التاسعة : تصريفها : إرسالها عقيما وملقحة ، وصرا ونصرا وهلاكا ، وحارة وباردة ، ولينة وعاصفة . وقيل : تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا ، ودبورا وصبا ، ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين . وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنهما ما يضر بهما ، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها ، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت . والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتي بالروح غالبا . روى قوله تعالى : وتصريف الرياح أبو داود عن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبي هريرة . وأخرجه أيضا الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن الأوزاعي عن الزهري حدثنا ثابت الزرقي عن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها . المعنى : أن الله تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح ، والإضافة من [ ص: 186 ] طريق الفعل . والمعنى : أن الله تعالى جعلها كذلك . وفي صحيح لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . وهذا معنى ما جاء في الخبر أن الله سبحانه وتعالى فرج عن نبيه صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب ، فقال تعالى : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها . ويقال : نفس الله عن فلان كربة من كرب الدنيا ، أي فرج عنه . وفي صحيح مسلم من حديث رضي الله عنه : أبي هريرة . أي فرج عنه . وقال الشاعر : من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة
كأن الصبا ريح إذا ما تنسمت على كبد مهموم تجلت همومها
قال ابن الأعرابي : النسيم أول هبوب الريح . وأصل الريح روح ، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح ، ولا يقال : أرياح ; لأنها من ذوات الواو ، وإنما قيل : رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها . وفي مصحف حفصة " وتصريف الأرواح " .
العاشرة : وتصريف الرياح قرأ حمزة " الريح " على الإفراد ، وكذا في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية ، لا خلاف بينهما في ذلك . ووافقهما والكسائي ابن كثير في الأعراف والنمل والروم وفاطر والشورى . وأفرد حمزة " الريح لواقح " . وأفرد ابن كثير " وهو الذي أرسل الريح " في الفرقان وقرأ الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع . والذي ذكرناه في الروم هو الثاني الله الذي يرسل الرياح . ولا خلاف بينهم في الرياح مبشرات . وكان أبو جعفر يزيد بن القعقاع يجمع الرياح إذا [ ص: 187 ] كان فيها ألف ولام في جميع القرآن ، سوى تهوي به الريح والريح العقيم فإن لم يكن فيه ألف ولام أفرد . فمن وحد الريح فلأنه اسم للجنس يدل على القليل والكثير . ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح . ومن جمع مع الرحمة ووحد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن ، نحو : الرياح مبشرات والريح العقيم فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : وجرين بهم بريح طيبة . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا هبت الريح : . وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح . فأفردت مع الفلك في " يونس " ; لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب . اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا
الحادية عشرة : قال العلماء : الريح تحرك الهواء ، وقد يشتد ويضعف . فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح : " الصبا " . وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح : " الدبور " . وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها : " ريح الجنوب " . وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها : " ريح الشمال " . ولكل واحدة من هذه الرياح طبع ، فتكون منفعتها بحسب طبعها ، فالصبا حارة يابسة ، والدبور باردة رطبة ، والجنوب حارة رطبة ، والشمال باردة يابسة . واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة . وذلك أن الله تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء ، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حارا رطبا ، ورتب فيه النشء والنمو فتنزل فيه المياه ، وتخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها ، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع ، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان . فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة ، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة ; لأن الهواء في الصيف حار يابس ، فتنضج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع . فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس ، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة ; لأن الهواء في الخريف بارد يابس ، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار ، فتقطف الثمار [ ص: 188 ] وتحصد الأعناب وتفرغ من جمعها الأشجار . فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة ، ومباين له في الأخرى وهو اليبس ; لأن الهواء في الشتاء بارد رطب ، فتكثر الأمطار والثلوج وتهمد الأرض كالجسد المستريح ، فلا تتحرك إلا أن يعيد الله تبارك وتعالى إليها حرارة الربيع ، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشء والنمو بإذن الله سبحانه وتعالى . وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه ، إلا أن الأصول هذه الأربع . فكل ريح تهب بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى " النكباء " .
الثانية عشرة : سمي السحاب سحابا لانسحابه في الهواء . وسحبت ذيلي سحبا . وتسحب فلان على فلان : اجترأ . والسحب : شدة الأكل والشرب . والمسخر : المذلل ، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر . وقيل : تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق ، والأول أظهر . وقد يكون بماء وبعذاب ، روى قوله تعالى : والسحاب المسخر بين السماء والأرض مسلم عن رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة . وفي رواية بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبد الله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبد الله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها ؟ قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه . وفي التنزيل : وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ، وقال : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت وهو في التنزيل كثير . وخرج ابن ماجه عن عائشة أن . أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول : اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به فإن أمطر قال : اللهم سيبا نافعا مرتين أو ثلاثا ، وإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله [ ص: 189 ] على ذلك مسلم بمعناه عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك . قالت عائشة : فسألته فقال : إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي . ويقول إذا رأى المطر : ( رحمة ) . في رواية فقال : عن عائشة كما قال قوم عاد : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا . فهذه الأحاديث والآي تدل على صحة القول الأول وأن تسخيرها ليس ثبوتها ، والله تعالى أعلم . فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال ، فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح ، لقوله بين وهي مع ذلك مسخرة محمولة ، وذلك أعظم في القدرة ، كالطير في الهواء ، قال الله تعالى : لعله يا ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله وقال : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن .
الثالثة عشرة : قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض ، رواه عنه ابن عباس . ذكره عن الخطيب أبو بكر أحمد بن علي معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال : رأيت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بني سلمة فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فسأله ابن عباس : هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئا ؟ قال : نعم ، قال : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض . قال : سمعت كعبا يقول في الأرض تنبت العام نباتا ، وتنبت عاما قابلا غيره ؟ قال نعم ، سمعته يقول : إن البذر ينزل من السماء . قال ابن عباس : وقد سمعت ذلك من كعب .
الرابعة عشرة : لآيات أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته ، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله : وإلهكم إله واحد ليدل على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه ، وذكر رحمته ورأفته بخلقه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها .
[ ص: 190 ] فإن قيل : فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها . قيل له : هذا محال ; لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة ، فإن أحدثتها وهي معدومة كان محالا ، لأن الإحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد ، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك ، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث أنفسها . وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه وكذلك النجارة والنسج ، وذلك محال ، وما أدى إلى المحال محال . ثم إن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الأخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض والخطاب للكفار ، لقوله تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ، وقال : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض يعني بالملكوت الآيات . وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . يقول : أولم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات ، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه ، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم ، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال . وقال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين المؤمنون : 12 ] يعني آدم عليه السلام ، ثم جعلناه أي جعلنا نسله وذريته نطفة في قرار مكين إلى قوله تبعثون . فالإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة . كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما ، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال ; لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء ، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة ، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز . وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم ، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب ، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الأفعال بنفسه ، وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال ، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله [ ص: 191 ] بلا ناقل ولا مدبر . وقال بعض الحكماء : إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير ، الذي هو بدن الإنسان ، ولذلك قال تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة ، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها ، وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا من جنس الأرض ، وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن ، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس ، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء . وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض ، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار ; لأن العروق تستمد من الكبد . ومثانته بمنزلة البحر ، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر . وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض . وأعضاؤه كالأشجار ، فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر . والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان ، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان ، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد ، لا إله إلا هو .