الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين .

قوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فيه أربع قراءات : قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد ، ( ولقد صدق عليهم ) بالتخفيف [ ص: 263 ] ( إبليس ) بالرفع ( ظنه ) بالنصب ; أي في ظنه . قال الزجاج : وهو على المصدر أي ; صدق عليهم ظنا ظنه إذ صدق في ظنه ; فنصب على المصدر أو على الظرف . وقال أبو علي : ظنه نصب لأنه مفعول به ; أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال : لأقعدن لهم صراطك المستقيم وقال : لأغوينهم أجمعين ; ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به ، ويقال : صدق الحديث ، أي في الحديث . وقرأ ابن عباس ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي : صدق بالتشديد ظنه بالنصب بوقوع الفعل عليه . قال مجاهد : ظن ظنا فكان كما ظن فصدق ظنه . وقرأ جعفر بن محمد وأبو الهجاج ( صدق عليهم ) بالتخفيف ( إبليس ) بالنصب ( ظنه ) بالرفع . قال أبو حاتم : لا وجه لهذه القراءة عندي ، والله تعالى أعلم . وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل ( صدق ) ( إبليس ) مفعول به ; والمعنى : أن إبليس سول له ظنه فيهم شيئا فصدق ظنه ، فكأنه قال : ولقد صدق عليهم ظن إبليس . و ( على ) متعلقة ب ( صدق ) ، كما تقول : صدقت عليك فيما ظننته بك ، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شيء من الصلة على الموصول . والقراءة الرابعة : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ) برفع إبليس والظن ، مع التخفيف في ( صدق ) على أن يكون ( ظنه ) بدلا من ( إبليس ) وهو بدل الاشتمال .

ثم قيل : هذا في أهل سبأ ، أي كفروا وغيروا وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قوما منهم آمنوا برسلهم . وقيل : هذا عام ، أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى ; قاله مجاهد . وقال الحسن : لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس قال إبليس : أما إذ أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف ! فكان ذلك ظنا من إبليس ، فأنزل الله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه . وقال ابن عباس : إن إبليس قال : خلقت من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء لأحتنكن ذريته إلا قليلا فصدق ظنه عليهم . وقال زيد بن أسلم : إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علي لا تجد أكثرهم شاكرين ، ظنا منه فصدق عليهم إبليس ظنه . وقال الكلبي : إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه ، فصدق ظنه . فاتبعوه قال الحسن : ما ضربهم بسوء ولا بعصا وإنما ظن ظنا فكان كما ظن بوسوسته . إلا فريقا من المؤمنين نصب على الاستثناء ، وفيه قولان : أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين ؛ لأن كثيرا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي ، أي ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق وهو المعني بقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . [ ص: 264 ] فأما ابن عباس فعنه أنه قال : هم المؤمنون كلهم ، ف ( من ) على هذا للتبيين لا للتبعيض ، فإن قيل : كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب ؟ قيل له : لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته ، وقد وقع له تحقيق ما ظن . وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك فأعطي القوة والاستطاعة ، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك ، فلما رأى أنه تاب على آدم وأنه سيكون له نسل . يتبعونه إلى الجنة وقال : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين علم أن له تبعا ولآدم تبعا ; فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم ، لما وضع في يديه من سلطان الشهوات ، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين ، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات ، ومدهم إليها بالأماني والخدائع ، فصدق عليهم الذي ظنه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية