كذبت قوم نوح المرسلين قال " كذبت " والقوم مذكر ; لأن المعنى كذبت جماعة قوله تعالى : قوم نوح ، وقال : المرسلين لأن من كذب رسولا فقد كذب الرسل ; لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل . وقيل : كذبوا نوحا في النبوة وفيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده . وقيل : ذكر الجنس والمراد نوح عليه السلام . وقد مضى هذا في ( الفرقان ) .
إذ قال لهم أخوهم نوح أي ابن أبيهم وهي أخوة نسب لا أخوة دين . وقيل : هي أخوة المجانسة . قال الله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه وقد مضى هذا في ( الأعراف ) . وقيل : هو من قول العرب يا أخا بني تميم . يريدون يا واحدا منهم . : ومنه بيت الحماسة : الزمخشري
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
ألا تتقون أي ألا تتقون الله في عبادة الأصنام . إني لكم رسول أمين أي صادق فيما أبلغكم عن الله تعالى . وقيل : أمين فيما بينكم ; فإنهم كانوا عرفوا أمانته وصدقه من قبل كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش . فاتقوا الله أي فاستتروا بطاعة الله تعالى من عقابه .
[ ص: 112 ] وأطيعون فيما آمركم به من الإيمان . وما أسألكم عليه من أجر أي لا طمع لي في مالكم . إن أجري إلا على رب العالمين أي ما جزائي إلا على رب العالمين . فاتقوا الله وأطيعون كرر تأكيدا .
قوله تعالى : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : قالوا أنؤمن لك أي نصدق قولك . واتبعك الأرذلون الواو للحال وفيه إضمار " قد " أي وقد اتبعك . الأرذلون جمع الأرذل ، المكسر : الأراذل ، والأنثى : الرذلى ، والجمع : الرذل . قال النحاس : ولا يجوز حذف الألف واللام في شيء من هذا عند أحد من النحويين علمناه . وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي وغيرهم ( وأتباعك الأرذلون ) . النحاس : وهي قراءة حسنة ; وهذه الواو أكثرها تتبعها الأسماء والأفعال ب " قد " . وأتباع جمع تبع وتبيع يكون للواحد والجمع . قال الشاعر :
له تبع قد يعلم الناس أنه على من يداني صيف وربيع
ارتفاع ( أتباعك ) يجوز أن يكون بالابتداء و ( الأرذلون ) الخبر ; التقدير أنؤمن لك وإنما أتباعك الأرذلون . ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في قوله : أنؤمن لك والتقدير : أنؤمن لك نحن وأتباعك الأرذلون فنعد منهم ; وحسن ذلك الفصل بقوله : " لك " وقد مضى القول في الأراذل في سورة ( هود ) مستوفى . ونزيده هنا بيانا وهي المسألة :
الثانية : فقيل : إن الذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكناته وبنو بنيه . واختلف هل كان معهم غيرهم أم لا . وعلى أي الوجهين كان فالكل صالحون ; وقد قال نوح : ونجني ومن معي من المؤمنين والذين معه هم الذين اتبعوه ، ولا يلحقهم من قول الكفرة شين ولا ذم بل الأرذلون هم المكذبون لهم . قال السهيلي : وقد أغري كثير من العوام بمقالة رويت في تفسير هذه الآية : هم الحاكة والحجامون . ولو كانوا حاكة كما زعموا لكان إيمانهم بنبي الله واتباعهم له مشرفا كما تشرف بلال وسلمان بسبقهما للإسلام ; فهما من وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم ، فلا ذرية نوح كانوا حاكة ولا حجامين ، ولا قول الكفرة في الحاكة والحجامين إن كانوا آمنوا به " أرذلون " ما يلحق اليوم بحاكتنا ذما ولا نقصا ; لأن هذه حكاية عن قول الكفرة إلا أن يجعل الكفرة حجة ومقالتهم أصلا ; وهذا جهل عظيم وقد أعلم الله تعالى أن الصناعات ليست بضائرة في الدين .
قوله تعالى : قال وما علمي بما كانوا يعملون ( كان ) زائدة ; والمعنى : وما علمي بما يعملون ; أي لم أكلف العلم بأعمالهم إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان ، والاعتبار بالإيمان [ ص: 113 ] لا بالحرف والصنائع ; وكأنهم قالوا : إنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعا في العزة والمال . فقال : إني لم أقف على باطن أمرهم وإنما إلي ظاهرهم . وقيل : المعنى إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويرشدهم ويغويكم ويوفقهم ويخذلكم . إن حسابهم أي في أعمالهم وإيمانهم إلا على ربي لو تشعرون وجواب " لو " محذوف ; أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم لما عبتموهم بصنائعهم . وقراءة العامة : " تشعرون " بالتاء على المخاطبة للكفار وهو الظاهر وقرأ ابن أبي عبلة ومحمد بن السميقع : ( لو يشعرون ) بالياء كأنه أخبر عن الكفار وترك الخطاب لهم ; نحو قوله : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم . وروي أن رجلا سأل سفيان عن امرأة زنت وقتلت ولدها وهي مسلمة هل يقطع لها بالنار ؟ فقال : إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون . وما أنا بطارد المؤمنين أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم . وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء كما طلبته قريش . إن أنا إلا نذير مبين يعني : إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغنى دون الفقراء ، إنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به ، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله وإن كان فقيرا .
قوله تعالى : قالوا لئن لم تنته يا نوح أي عن سب آلهتنا وعيب ديننا لتكونن من المرجومين أي بالحجارة ; قاله قتادة . وقال ابن عباس ومقاتل : من المقتولين . قال الثمالي : كل " مرجومين " في القرآن فهو القتل إلا في مريم : لئن لم تنته لأرجمنك أي لأسبنك . وقيل : من المرجومين من المشتومين ; قاله . ومنه قول السدي أبي دؤاد قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين قال ذلك لما يئس من إيمانهم . والفتح الحكم وقد تقدم . فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون يريد السفينة وقد مضى ذكرها . والمشحون المملوء ، والشحن ملء السفينة بالناس والدواب وغيرهم . ولم يؤنث الفلك هاهنا لأن الفلك هاهنا واحد لا جمع ثم أغرقنا بعد الباقين أي بعد إنجائنا نوحا ومن آمن . إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .