الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر بعض ما غنمه المسلمون يوم مؤتة

                                                                                                                                                                                                                              روى محمد بن عمر ، والحاكم في الإكليل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : أصيب بمؤتة ناس من المسلمين ، وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين ، وكان فيما غنموا خاتم جاء به رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قتلت صاحبه يومئذ فنفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتقدم حديث عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه . وروى محمد بن عمر ، عن خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : «حضرت مؤتة فبارزني رجل منهم يومئذ فأصبته وعليه بيضة له فيها ياقوتة ، فلم تكن همتي إلا الياقوتة ، فأخذتها . فلما رجعنا إلى المدينة أتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفلنيها ، فبعتها زمن عثمان بمائة دينار فاشتريت بها حديقة نخل» . قال في البداية : «وهذا يقتضي أنهم غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم وقتلوا من أمرائهم» . وروى البخاري عن خالد رضي الله تعالى عنه قال : «لقد اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية» وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم- إذ كان المسلمون ثلاثة آلاف والمشركون أكثر من مائتي ألف- وهذا وحده دليل مستقل والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              وقد ذكر ابن إسحاق أن قطبة بن قتادة العذري الذي كان على ميمنة المسلمين حمل على مالك بن رافلة ويقال ابن رافلة ، وهو أمير أعراب النصارى ، فقتله ، وقال قطبة يفتخر بذلك :


                                                                                                                                                                                                                              طعنت ابن رافلة ابن الإراش برمح مضى فيه ثم انحطم     ضربت على جيده ضربة
                                                                                                                                                                                                                              فمال كما مال غصن السلم     وسقنا نساء بني عمه
                                                                                                                                                                                                                              غداة رقوقين سوق النعم

                                                                                                                                                                                                                              وهذا يؤيد ما نحن فيه لأن من عادة أمير الجيش إذا قتل أن يفر أصحابه ، ثم إنه صرح في شعره بأنهم سبوا من نسائهم ، وهذا واضح فيما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن [ ص: 153 ] أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أصيب جعفر وأصحابه فقال : «ايتني ببني جعفر» . فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه ، فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء ؟ قال : «نعم أصيبوا هذا اليوم» .

                                                                                                                                                                                                                              قالت : فقمت أصيح واجتمع إلي النساء وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال : «لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس يوم أصيبوا قبل أن يأتيه خبرهم فقال : «أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب ، وعيناه تذرفان ، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله عليهم» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى النسائي والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال : «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الإمراء فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله ، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنودي : الصلاة جامعة . فاجتمع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «أخبركم عن جيشكم هذا . إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد شهيدا ، فاستغفر له ثم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا ، فاستغفر له ، ثم أخذه خالد بن الوليد ، ولم يكن من الأمراء ، هو أمر نفسه» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره» .

                                                                                                                                                                                                                              فمن يومئذ سمي خالد : «سيف الله» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي عن ابن عقبة رحمه الله تعالى قال : «قدم يعلى بن أمية رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بخبر أهل مؤتة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن شئت أخبرني وإن شئت أخبرك ، بخبرهم» . قال : بل أخبرني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم كله فقال : «والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله عز وجل رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم ورأيتهم في المنام على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه فقلت : عم هذا ؟ فقيل لي : مضيا وتردد بعض التردد ثم مضى» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عبد الرزاق عن ابن المسيب رحمه الله تعالى مرسلا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مثل جعفر وزيد وابن رواحة في خيمة من در ، فرأيت زيدا ، وابن رواحة في أعناقهما صدودا ، ورأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود ، فسألت أو قيل لي إنهما حين غشيهما الموت اعتراضا أو كأنهما صدا بوجهيهما وأما [ ص: 154 ] جعفر فإنه لم يفعل وأن الله تعالى أبدله جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري والنسائي عن عامر الشعبي قال : «كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا حيا عبد الله بن جعفر قال : السلام عليك يا ابن ذي الجناحين» .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : «ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني- : «أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا» . قال : ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون ثم قال : «ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا» ، ثم قال : «لقد رفعوا إلي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب» . فذكر مثل ما سبق .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد عن أبي عامر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه مصاب أصحابه شق ذلك عليه فصلى الظهر ثم دخل وكان إذا صلى الظهر قام فركع ركعتين ثم أقبل بوجهه على القوم ، فشق ذلك على الناس ، ثم صلى العصر ففعل مثل ذلك ، [ثم صلى المغرب ففعل مثل ذلك] ثم صلى العتمة ففعل مثل ذلك حتى إذا كان صلاة الصبح دخل المسجد ثم تبسم ، وكان تلك الساعة لا يقوم إليه إنسان من ناحية المسجد حتى يصلي الغداة . فقال له القوم [حين تبسم] : «يا نبي الله بأنفسنا أنت لا يعلم إلا الله ما كان بنا من الوجد منذ رأينا منك الذي رأينا» . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كان الذي رأيتهم مني أنه أحزنني قتل أصحابي حتى رأيتهم في الجنة إخوانا على سرر متقابلين ، ورأيت في بعضهم إعراضا كأنه كره السيف ورأيت جعفرا ملكا ذا جناحين مضرجا بالدماء مصبوغ القوادم» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحكيم الترمذي في الثالث والعشرين بعد المائة من فوائده عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال : بعثني خالد بن الوليد بشيرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية