وقال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل -عليه السلام - : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [إبراهيم : 35] .
جمع صنم ، وهو ما كان منحوتا على صورة ، والوثن : ما كان موضوعا على غير ذلك، ذكره . الطبري
وقد يسمى الصنم : وثنا ، ويقال : إن الوثن أعم منه ، وهو قوي . [ ص: 392 ]
والمعنى : اجعلني وأولادي في جانب عن عبادتها ، وباعد بيننا وبينها .
والآية دليل على ، وعلى الاجتناب منه . ذم الشرك
وقد استجاب الله دعاءه -عليه السلام - ، وجعل بنيه أنبياء ، وجنبهم عبادة الأصنام .
وقد بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله : رب إنهن أضللن كثيرا من الناس [إبراهيم : 36] ، وهذا هو الواقع في كل زمان ، فمنهم من يعبد الأصنام ، ومنهم من يعبد الأوثان ، والقبور المعبودة داخلة في ذلك.
وإذا عرف الإنسان أن كثيرا وقعوا في الشرك الأكبر ، وضلوا بعبادة الأصنام ، أوجب ذلك خوفه أن يقع فيما وقع فيه الكثير من الشرك الذي لا يغفره الله تعالى .
قال إبراهيم التيمي : ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ رواه ، ابن جرير عنه . وابن أبي حاتم
فلا يأمن من الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به ، وبما يخلصه من العلم بالله تعالى ، وبما بعث به رسله ؛ من توحيده ، والنهي عن الشرك به .
وقد سرى هذا الشرك في هذا الزمان ، بل منذ زمن كثير في أكثر الناس ، في غالب الأقطار ، وابتلي به من هو معدود في أهل العلم في قبائله ، وبلاده ، وقل من نجا منه ، ومن أنواعه الخفيات ، بل وأقسامه الجليات .
ولإبليس اللعين في إيقاع الخلق في طرائقه تطورات لا يحصرها العدد ، ولا يبلغ مداها ، ولا يعرفها إلا من عرف الكتاب والسنة حق العرفان ، وتأدب بعطفهما ، ومفاهيمهما .
وأما غير هؤلاء ، فلا أظنهم الناجين ، إلا من رحم الله ، وكتبهم في الصالحين .
وفي الحديث القدسي عن -رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة أخرجه «قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا [ ص: 393 ] أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه ، وأنا منه بريء » . مسلم
يعني : كما أن الناس يقسمون شيئا مشتركا فيما بينهم ، فإني لا أفعل ذلك ؟ لأني غني أشد الغنى ، فمن عمل لي عملا أشرك فيه غيري ، فإني أترك نصيبي منه ، وأتركه كله ، وأبرأ منه .
فهذا الحديث دل على أن من عمل عملا لله تعالى ، ثم عمل ذلك العمل لغيره سبحانه ، فقد ثبت الشرك عليه ، وأن عبادة المشرك لله لا يقبلها الله أصلا ، بل يتبرأ منه .
وأخرج الإمام عن أحمد -رضي الله عنه- في تفسير قول الله -عز وجل - : أبي بن كعب وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين .
قال : «جمعهم ، فجعلهم أزواجا ، ثم صورهم ، فاستنطقهم ، فتكلموا ، ثم أخذ عليهم العهد ، والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى .
قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع ، والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم ، أن تقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا.
اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا رب غيري ، ولا تشركوا بي شيئا ، إني سأرسل إليكم رسلي ، يذكرونكم عهدي ، وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي ، قالوا : شهدنا بأنك ربنا ، وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، ولا إله لنا غيرك » .
ذكره صاحب «المشكاة » في باب : الإيمان بالقدر .
والمراد : أن الله تعالى قال هكذا في سورة «الأعراف » ، وفسره كاتب الوحي من قراء الصحابة أبي بن كعب الأنصاري بما تقدم .
وهو في حكم المرفوع ، وإن لم يرفعه ؛ لأن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي والاجتهاد .
وحاصل القصة : أن الله جمع جميع أولاد آدم في موضع واحد ، وجعلهم أزواجا ، فأقام الأنبياء في مكان ، والأولياء في مكان ، والصلحاء في مقام ، [ ص: 394 ] والطلحاء في مقام ، والمطيعين في محل ، والعاصين في محل ، وفرقهم جماعات ، فجعل النصارى في موضع ، واليهود في موضع ، والهنود في مكان ، والمجوس في مقام آخر .
مثلا : صور كل واحد كما هو في الدنيا ؛ من حسن ، وقبيح ، وبصير ، وأعمى ، وأبكم ، وأصم ، ونحوها ، ثم أعطاهم القدرة على التكلم ، ثم قال لهم : ألست بربكم ، فأقر الجميع بأنك ربنا ، واعترفوا بربوبيته سبحانه ، فأخذ عليهم الميثاق ألا يعبدوا إلا إياه ، ولا يعتقدوا أحدا الحاكم والمالك سواه ، وألا يؤمنوا إلا به ، فاعترفت الذرية كلها بذلك، وأشهد الله -تبارك وتقدس - السماوات كلها ، والأرضين كلها ، وآدم أباهم على هذا الميثاق ؛ تقوية للعهد ، وتوثيقا للإقرار .
وقال لهم : إن رسلنا يأتونكم بالكتب من جهتنا لتذكير هذا الاعتراف منكم ، فأقرت كل جماعة على حدة بتوحيد الألوهية ، والربوبية ، وأنكرت الشرك به تعالى ، وهذا دليل على أن ينبغي ألا يستدل بأحد في أمر الشرك ، سواء كان شيخا ، أو أستاذا ، أو أبا ، أو جدا ، أو ملكا ، أو حبرا ، أو راهبا .