(كتاب الإيمان)
«وهو في اللغة «التصديق» ، فإن عني به ذلك فلا يزيد ولا ينقص. لأن [ ص: 32 ] التصديق ليس شيئا «يتجزى» حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى.
وفي لسان الشرع: هو «التصديق بالقلب، والعمل بالأركان» وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان، وهو مذهب أهل السنة.
قاله الأصبهاني في «التحرير» شرح «وزاد مسلم، ابن بطال» في شرح البخاري انتهى» . قال تعالى: «مذهب جماعة من سلف الأمة وخلفها: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، وقال: وزدناهم هدى ، وقال: ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ، وقال: والذين اهتدوا زادهم هدى ، وقال: ويزداد الذين آمنوا إيمانا وقال: أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا ، وقال فاخشوهم فزادهم إيمانا ، وقال: وما زادهم إلا إيمانا وتسليما .
قال فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص. وقال ابن بطال: بنقصان الإيمان. وبه قال مالك سفيان الثوري والأوزاعي ومعمر بن راشد وابن جريج وابن عيينة. وهو قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري وعطاء وطاووس ومجاهد وابن المبارك.
[ ص: 33 ] قال الله تعالى: «فالمؤمن» من أتى بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح.
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .
فأخبر سبحانه: أن المؤمن من كانت هذه صفته. وعليه بوب أبوابه كلها فقال: «باب أمور الإيمان، وباب الصلاة من الإيمان، وباب الزكاة من الإيمان، وباب الجهاد من الإيمان» وسائر أبوابه. البخاري
وإنما أراد وتبيين غلطهم وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسنة. الرد على المرجئة في قولهم «إن الإيمان قول بلا عمل»
ومذاهب الأئمة ومذاهب السلف متظاهرة متطابقة على «كون الإيمان يزيد وينقص» ، قال النووي: «وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين» .
قال: فالأظهر أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم. وهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل أن نفس تصديق أبي بكر الصديق لا يساويه تصديق آحاد الناس.
وأما إطلاق اسم «الإيمان» على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق ؛ ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر.
[ ص: 34 ] قال تعالى:
وما كان الله ليضيع إيمانكم .
أجمعوا على أن المراد «صلاتكم» ، وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب منها جمل مستكثرات.
قال: واختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما أهم ما يذكر في الباب.
قال في «معالم السنن» ، ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة !. وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين، ورد الآخر منهما على المتقدم وصنف عليه كتابا يبلغ عدد أوراقه «المئين» . قال: الخطابي ، فقد يكون المرء مستسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن، وقد يكون صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر. وأصل الإيمان «التصديق» وأصل الإسلام «الاستسلام والانقياد»
قال في حديث البغوي جبريل عليه السلام: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام «اسما» لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان «اسما» ، لما بطن من الاعتقاد.
قال ابن الصلاح: فالإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، وإن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. قال: وهذا تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط الخائضون فيها. وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم انتهى.
[ ص: 35 ] وفي كتاب «شرح الإيمان» ، لشيخ الإسلام «ابن تيمية» أن الإيمان والإسلام يجتمع فيهما «الدين كله» وقد كثر كلام الناس في حقيقة الإيمان والإسلام ونزاعهم واضطرارهم وقد صنفت في ذلك «مجلدات» ؛ والنزاع في ذلك من حين خرجت الخوارج بين عامة الطوائف.
ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع كلام الله، فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله ورسوله، فإن هذا هو المقصود فلا نذكر اختلاف الناس «ابتداء» بل نذكر من ذلك في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله ما يبين أن رد موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول خير وأحسن تأويلا وأحسن عاقبة في الآخرة. فنقول: قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بين مسمى «الإسلام» ومسمى «الإيمان» ومسمى «الإحسان» ، فقال: ، والفرق مذكور في حديث «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» ، وقال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» الذي انفرد به عمر وفي حديث «مسلم» الذي اتفق أبي هريرة البخاري عليه، وكلاهما فيه «أن ومسلم جبريل جاءه في صورة إنسان أعرابي فسأله» وفي حديث رضي الله عنه «أنه جاء في صورة أعرابي» . عمر
وكذلك فسر «الإسلام» ، في حديث المشهور قال: ابن عمر
. «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان»
[ ص: 36 ] وحديث جبريل يبين أن الإسلام المبني على خمس هو «الإسلام نفسه» ليس المبني غير المبني عليه، بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم «الدين» ثلاث درجات: أعلاها «الإحسان» وأوسطها «الإيمان» ويليه «الإسلام» .
فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم. وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في سائر الأحاديث، كالحديث الذي رواه عن حماد بن زيد أيوب عن أبي قلابة رواه عن رجل من أهل الشام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال له: ألم تسلم قال: وما الإسلام؟ قال: أن يسلم قلبك وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك قال: فأي الإسلام أفضل ؟ قال: الإيمان. قال: وما الإيمان ؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت، قال: أي الإيمان أفضل ؟ قال: الهجرة. قال: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء. قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد. قال: وما الجهاد؟ قال: أن تجاهد «أو تقاتل» الكفار إذا لقيتهم ولا تغلل ولا تجبن، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما «قالها ثلاثا» ، حجة مبرورة أو عمرة» أحمد ومحمد بن نصر المروزي انتهى.
ثم ذكر هذه المراتب الأربعة وأطال في بيانها وقال: فيقال: إن اسم «الإيمان» تارة يذكر مفردا غير مقرون باسم «الإسلام» ، ولا باسم «العمل الصالح» ولا غيرهما، وتارة يذكر مقرونا إما بالإسلام كقوله في حديث جبريل «ما الإسلام؟ ما الإيمان؟» .
[ ص: 37 ] و كقوله: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات .
وقوله: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا .
وقوله: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين .
وكذلك ذكر الإيمان مع العمل الصالح. وذلك في مواضع من القرآن كقوله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وإما مقرونا «بالذين» أوتوا العلم كقوله تعالى:
وقال الذين أوتوا العلم والإيمان .
وقوله: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وحيث ذكر (الذين آمنوا) فقد دخل فيهم (الذين أوتوا العلم) فإنهم خيارهم. قال تعالى:
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وقال: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك .
[ ص: 38 ] ويذكر أيضا لفظ المؤمنين مقرونا بالذين هادوا والنصارى والصابئين ثم يقول: من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم الآية.
فالمؤمنون في ابتداء الخطاب غير الثلاثة، والإيمان الآخر عمهم كما عمهم في قوله:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية .
فالمقصود هنا العموم والخصوص بالنسبة إلى ما في الباطن والظاهر من الإيمان، وأما العموم بالنسبة إلى الملل فتلك إلى مسألة أخرى.
فلما ذكر الإيمان مع الإسلام جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج. وجعل الإيمان ما في القلب من التصديق بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر. وهكذا في الحديث الذي رواه «عن أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنس . وإذا ذكر اسم «الإيمان» ، مجردا دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة. كقوله في حديث الشعب: (الإسلام علانية والإيمان في القلب) . وكذلك سائر الأحاديث التي يجعل فيها أعمال البر من الإيمان. «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»
فالمؤمن حقا هو الفاعل للواجبات، التارك للمحرمات، وقد تبين أن [ ص: 39 ] لفظ «الإيمان» حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال. وإنما يدعى خروجها منه عند التقييد. وأما حديث «جبريل» فإن كان أراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام فهو كذلك. وهذا هو الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم قطعا، كما أنه لما ذكر الإحسان أراد: الإحسان مع الإيمان والإسلام، ولم يرد أن الإحسان مجرد عن إيمان وإسلام.
قال: «وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم على ما تأولوه بفهمهم للغة، وهذه طريقة أهل البدع؛ ولهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما «يتخطى» ، الناس من جهة التأويل والقياس؛ ولهذا تجد ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين. فلا يعتمدون على «سنة» ولا على إجماع السلف وآثارهم؛ وإنما يعتمدون على العقل واللغة. وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف. وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رءوسهم. المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم وما تأولوه من اللغة؛
وهذه طريقة الملاحدة. أيضا إنما يأخذون ما في كتب الفلاسفة وكتب الأدب واللغة، وأما كتب القرآن والحديث والآثار فلا يلتفتون إليها بل يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم، وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ ص: 40 ] وقد ذكرنا كلام أحمد وغيره في إنكار هذا وجعله طريقة أهل البدع؛ وإذا تدبرت حججهم وجدت دعاوى لا يقوم عليها دليل قال: ومما يدل من القرآن على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال. قوله تعالى:
إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون .
فنفى «الإيمان» عن غير هؤلاء، فمن كان إذا ذكر بالقرآن لا يفعل ما فرضه الله عليه من السجود لم يكن من المؤمنين. وسجود الصلوات الخمس فرض باتفاق المسلمين. وأما سجود «التلاوة» ففيه نزاع.
وقد يحتج بهذه الآية من يوجبه. لكن ليس هذا موضع بسط هذه المسألة.
وأما إذا قيد «الإيمان» ، فقرن بالإسلام أو بالعمل الصالح فإنه قد يراد به ما في القلب من الإيمان باتفاق الناس؛ وهل يراد به أيضا المعطوف عليه ويكون من باب عطف الخاص على العام؟ أو لا يكون حين الاقتران داخلا في مسماه بل يكون لازما له على مذهب أهل السنة؟ أو لا يكون بعضا ولا لازما؟
هذا فيه ثلاثة أقوال للناس. قال: فإذا تبين هذا فلفظ «الإيمان» إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ «البر» وبلفظ «التقوى» وبلفظ «الدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن «الإيمان» بضع وسبعون شعبة أفضلها قول: لا إله إلا الله الخ...، فكان كل ما يحبه الله يدخل في اسم «الإيمان» ، وكذلك لفظ «البر» ، يدخل فيه جميع ذلك إذا [ ص: 41 ] أطلق، وكذلك لفظ «التقوى» ، وكذلك «الدين» أو دين الإسلام، وكذلك روي أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق .
وقد فسر «البر» بالإيمان وفسر بالتقوى، وفسر بالعمل الذي يقرب إلى الله، والجميع حق. قال: فهؤلاء غلطوا في أصلين: أحدهما ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة ومحبة وخشية في القلب. وهذا من أعظم غلط «المرجئة» مطلقا؛ فإن أعمال القلوب التي يسميها بعض الصوفية أحوالا ومقامات، أو منازل السائرين إلى الله، أو مقامات العارفين، أو غير ذلك، كل ما فيها مما فرضه الله ورسوله فهو من الإيمان الواجب. وفيها ما أحبه ولم يفرضه فهو من الإيمان المستحب؛ فالأول لا بد لكل مؤمن منه. ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين. والثاني للمقربين السابقين؛ وذلك مثل حب الله ورسوله، بل أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، بل أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من أهله وماله. ومثل خشية الله وحده دون خشية المخلوقين، ورجاء الله وحده دون رجاء المخلوقين، والتوكل على الله وحده دون المخلوقين، والإنابة إليه مع خشيته؛ ومثل الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة لله، والمعاداة لله.
والثاني: ظنهم أن كل ما حكم الشارع بأنه كافر مخلد في النار [ ص: 42 ] فإنما ذاك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق، وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة: وجماهير النظار؛ فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره، ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوى النفس.
ويحمله ذلك الهوى على أن يتعدى عليه، ويرد ما يقوله بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه.
وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم، وأنهم صادقون.
والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه. كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها. ولم يكن قولهم مثل قول «جهم» وعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه. وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم. لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول «جهم» ، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا، فإنها لازمة لها إلى آخر البحث. ثم بحث عن وجوب زيادة الإيمان ونقصانه، وأطال في بيان ذلك من وجوه لا يحتملها هذا المقام.
وفي الصحيحين الحديث . ومن أمر بالصلاة والصوم ففعلهما كان دينه كاملا بالنسبة إلى هذه الناقصة الدين. ومن مباحث هذا المقام ما اختلف فيه العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان قوله: «أنا مؤمن» . «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف النساء بأنهن ناقصات عقل ودين»
فقالت طائفة: لا يقول ذلك. بل يقول: إن شاء الله. وإليه ذهب [ ص: 43 ] أكثر متكلمي الشافعية.
وذهب آخرون إلى جواز الاقتصار عليه. قال النووي: وهذا هو المختار وقول التحقيق. وذهب الأوزاعي وغيره إلى جواز الأمرين. والكل صحيح باعتبارات مختلفة. قال: والقول «بالتخيير» حسن صحيح انتهى. قلت: والتحقيق كما حققنا في (الانتقاد الرجيح) وغيره: أن مرجع ذلك إلى نزاع لفظي لا يأتي البحث الكثير فيه بفائدة، ولا يعود بعائدة.
وإن شئت زيادة الاطلاع على تمام الكلام على هذه المسألة فراجع كتاب «شرح الإيمان» لشيخ الإسلام «ابن تيمية» قدس الله روحه وأفاض علينا فتوحه: فإنه غاية في الباب، خطيب في هذا المحراب، ليس وراءه غاية، ولا دونه نهاية، وإنما قدمنا هذه الجمل من المسائل المتعلقة بالإيمان في صدر هذا الشرح تمهيدا لكونها مما يكثر الاحتياج إليه، ويكثر تكرره وتردده في الأحاديث.
قال «رح» بعد ذلك: بعون الله نبتدي، وإياه نستكفي، وما توفيقنا إلا بالله جل ذكره. قال أبو الحسين مسلم بن الحجاج النووي في هذا الموضع: اعلم أن «رح» سلك في هذا الكتاب طريقة الإتقان، والاحتياط، والتدقيق، والتحقيق مع الاختصار البليغ، والإيجاز التام في نهاية من الحسن، مصرحة بغزارة علومه، ودقة نظره، وحذقه، وذلك يظهر في الإسناد تارة، وفي المتن تارة. وفيهما تارة، فينبغي للناظر في كتابه أن يتنبه لما ذكرته فإنه يجد عجائب من النفائس والدقائق. تقر بآحاد أفرادها «عينه» ، وينشرح لها «صدره» وينشطه الاشتغال بهذا العلم. مسلما
[ ص: 44 ] واعلم أنه لا يعرف أحد شارك «مسلما» ، في هذه النفائس التي نشير إليها: من دقائق الإسناد.
وكتاب وإن كان أصح وأجل وأكثر فوائد في الأحكام والمعاني؛ فكتاب مسلم يمتاز بزوائد من صنعة الإسناد. انتهى. البخاري
وقد نبه على ذلك النووي في شرحه؛ وأما أنا في هذا الشرح فقد اقتصرت على شرح مباني الحديث ومعانيه، ولم أتعرض لذلك لكون متن هذا الشرح غير محتو على الإسناد وما إليه. وكذلك لم أتعرض لبيان حال الرواة من الصحابة وغيرهم؛ لأن المقصود من تحرير هذا الشرح الصغير تيسير فقه الحديث وما ترجح من الأحكام والمسائل في هذه الأبواب، دون التعقيب على المذاهب الفقهية الفروعية التي أكثرها غير مؤسس على بناء السنة والكتاب.
وسيعرف قدر هذا المختصر من يعرف مقادير علوم العلماء، وله «يد» على فهم دواوين السلف والخلف جميعا، ومعرفة بأقوالهم وآرائهم، وأدلة المذاهب، وهو عارف بكيفية الاستدلالات، غير جامد على التأويلات والتقليدات، ومن قصر في هذا فقد قصر في معرفة هذا الشأن وهذا الشرح، وصار المعروف عنده منكرا، وبالعكس.
وإنما لم أطول في بيان ما يعتني به الشراح من الفوائد الزوائد الخارجة عن أصل المقصود، وهو الدراية للرواية للعمل، بها إحالة على المطولات المؤلفة في هذا الباب «كشرح النووي» ، «وفتح الباري» وغيرهما [ ص: 45 ] وقل من له همة في الاطلاع على مثل ذلك، وإنما همم أبناء هذا الزمن على النبذ والقلة، وهذه أيضا غنيمة منهم؛ فإن الإسلام عاد في الغربة إلى مكان لا يخفى على أحد، وعز كالعنقاء والكيمياء والله أعلم ماذا يكون بعد ذلك؟ قال المنذري «رح» :