مسألة
في أن ؟ ويظن كثير من الناس أن البحث في هذه المسألة مما أثاره المتأخرون ، وليس [ ص: 39 ] كذلك ، بل وقع في كلام من قبلهم . والمشهور : نعم ، وممن صرح به العام في الأشخاص : هل هو عام في الأحوال والأزمنة الإمام أبو المظفر في " القواطع " في الكلام على استصحاب الحال ، فقال : لأن لفظ العموم دال على استغراق جميع ما يتناوله اللفظ في أصل الوضع في الأعيان وفي الأزمان ، وفي أي عين وجد ثبت الحكم فيها بعموم اللفظ ، هذا كلامه . وكذلك الإمام فخر الدين في " المحصول " في كتاب القياس حيث قال جوابا عن سؤال : قلنا : لما كان أمرا بجميع الأقيسة كان متناولا لا محالة لجميع الأوقات ، وإلا قدح ذلك في كونه متناولا لكل الأقيسة انتهى .
وهو ظاهر كلام الغزالي في فتاويه " فإنه قال فيما إذا قال لأمته الحامل : كل ولد تلدينه فهو حر ، أنه كما يشمل الذكر والأنثى يشمل اختلاف الوقت فينبغي أن يعم ، ويتكرر . هذا لفظه .
وقد نص فيما إذا قال : أنت طالق ، ثم قال : أردت : إن دخلت الدار ، إنه لا يدين وإذا نوى إلى شهرين يدين ، ففرق بين الزمان والمكان . الشافعي
وظاهر كلام مجلي في " الذخائر " والرافعي وغيرهما أنه لا فرق ، فإنهما حكيا وجهين في التديين في " إن دخلت الدار " وقال الإمام : وللفقيه نظر في هذا ، فإن قول القائل : إن كلمت زيدا يتعلق بالأزمان ظاهرا على العموم ، بخلاف إن دخلت الدار ، فإن اللفظ لا يدل على التقييد ، وتبعه [ ص: 40 ] الغزالي حيث قال : اللفظ عام في الأزمان ، فإذا قال : أردت شهرا ، فكأنه خصص العام ; قال الرافعي : وقد تقابل هذه المسألة ، فيقال : اللفظ عام في الأحوال ، إلا أنه خصصه بحال دخول الدار . انتهى .
لكن الإمام قائل بأن اللفظ لا ينبئ عن الأحوال ، وإنما يدل على الأزمان على أن هذا اللفظ لا عموم له ألبتة ، وإنما هو مطلق ، وزعم القرافي أن العام في الأشخاص مطلق في الأزمان والبقاع والأحوال والتعلقات . فلا تعم الصيغة في شيء من هذه الأربع من جهة ثبوت العموم في غيرها ، حتى يوجد لفظ يقتضي فيها العموم ; لأن العام في الأشخاص لا دلالة له على خصوص يوم معين ولا مكان معين ولا حالة مخصوصة ، فإذا قال : اقتلوا المشركين ، عم كل مشرك بحيث لا يبقى فرد ، ولا يعم الأحوال ، حتى لا يقتل في حال الهدنة والذمة ، ولا خصوص المكان ، حتى يدل على المشركين في أرض الهند مثلا ، ولا الأزمان حتى يدل على يوم السبت مثلا ، ويستعمل كذلك في دفع كثير من الاستدلالات بألفاظ من الكتاب والسنة ، فيؤدي إلى بعض الأحوال التي اتفق عليها الخصمان ، فيقال : إن اللفظ مطلق في الأحوال ، وقد عملت به في الصورة الفلانية ، والمطلق يكفي في العمل به مرة واحدة ، فلا يلزم العمل به في صورة النزاع . وقد ارتضاه الأصفهاني " في شرح المحصول " وفي كلام الآمدي في مسألة الاحتجاج بقول الصحابي ما يشير إلى القول بهذه القاعدة . وقد ردها جماعة ، منهم الشيخ تقي الدين في " شرح العمدة " فقال : وهذا عندي باطل ; بل الواجب أن ما دل عليه العموم في الذوات مثلا يكون دالا على ثبوت الحكم في كل ذات تناولها اللفظ ، ولا يخرج [ ص: 41 ] عنها ذات إلا بدليل يخصه ، فمن أخرج شيئا من ذلك فقد خالف مقتضى العموم ، نعم يكفي في العمل بالمطلق مرة كما قالوا ، ونحن لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإطلاق ، وإنما قلنا به من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كل ذات ، فإن كان المطلق لا يقتضي العمل به مرة مخالفة لمقتضى صيغة العموم ، قلنا بالعموم ، محافظة على مقتضى صيغته ، لا من حيث إن المطلق يعم .
مثال ذلك إذا قال : من دخل داري فأعطه درهما ، فمقتضى الصيغة العموم في كل ذات صدق عليها أنها داخلة ، فإذا قال قائل : هو مطلق في الأزمان ، وقد عملت به مرة ، فلا يلزم أن أعمل به أخرى لعدم عموم المطلق . قلنا له : لما دلت الصيغة على العموم في كل ذات دخلت الدار ، ومن جملتها الذوات الداخلة في آخر النهار ، فإذا أخرجت تلك الذوات ، فقد أخرجت ما دلت الصيغة على دخوله ، وهي كل ذات .
ثم استدل الشيخ على ذلك بحديث ، فإنه لما روى قوله عليه الصلاة والسلام : { أبي أيوب } . . . الحديث ، أتبعه بأن قال : " فقدمنا لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط الشام ، فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة ، فنحرف عنها ، ونستغفر الله عز وجل " ، قال . فإن من أهل اللسان والشرع ، وقد استعمل قوله : { أبا أيوب } . . . عاما في الأماكن ، وهو مطلق فيها ، وعلى ما قاله [ ص: 42 ] هؤلاء لا يلزم منه العموم ، وعلى ما قلناه يعم بمعنى ، فيكون العام في الأشخاص عاما في الأمكنة . ولا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها
وقد رد بعضهم هذا الاستدلال من جهة أن في اللفظ هنا ما يدل على العموم ، وهو وقوع الاستقبال نكرة في سياق النهي ، فيعم جميع الأماكن في الشام وغيره ، والنزاع إنما هو فيما إذا لم يكن هناك قرينة تدل على العموم ، فالحديث حجة للقرافي ، فإنه لو كان عموم الفعل في سياق النهي يقتضي العموم في المكان لما كان لتعريف المكان بالألف واللام فائدة . وتمسك آخرون في رد هذه القاعدة بحديث { أبي سعيد بن المعلى حيث دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فلم يجبه ، فقال عليه السلام : ألم يقل الله } الحديث . فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما في الأحوال ، لأنه احتج عليه بالآية وهو في الصلاة . ورد بأن ذلك جاء من صيغة " إذا " المقتضية للتكرار في جميع الأزمان والأحوال .
وقد خالف الشيخ تقي الدين في " شرح العمدة " في موضع آخر هذه القاعدة ، فقال في حديث بيع الخيار . إن الخيار عام ، ومتعلقه وهو ما [ ص: 43 ] يكون فيه الخيار مطلق ، فيحمل على خيار الفسخ ، وهذا اعتراف بمقالة القرافي ، وربما أيده بعضهم بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } قال : فلو كان العام في المشركين لكان { وجدتموهم } تكرارا و { حيث } من صيغ العموم في المكان ، قاله . القاضي عبد الوهاب
وقد توسط الشيخ علاء الدين الباجي بين هذين القولين : فقال ما معناه : إن معنى كون العام في الأشخاص مطلقا في الأحوال : والأزمان والبقاع أنه إذا عمل به في الأشخاص في زمان ما ومكان ما وحالة ما لا يعمل به في تلك الأشخاص مرة أخرى في زمان آخر ونحوه ، أما في أشخاص أخرى مما يتناوله ذلك اللفظ العام فيعمل به ; لأنه لو لم يعمل به لزم التخصيص في الأشخاص كما قاله الشيخ تقي الدين ، فالتوفية بعموم الأشخاص أن لا يبقى شخص ما في أي زمان ومكان وحال إلا حكم عليه ، والتوفية بالإطلاق أن لا يتكرر ذلك الحكم ، فكل زان مثلا يجلد بعموم الآية ، وإذا جلد مرة ولم يتكرر زناه بعد ذلك لا يجلد ثانية في زمان آخر . ومكان آخر ، فإن المحكوم عليه ، وهو الزاني والمشرك وما أشبه ذلك ، فيه أمران : أحدهما الشخص ، والثاني الصفة ، كالزنى والشرك لما دخلت عليهما أداة العموم أفادت عموم الشخص لا عموم الصفة ، والصفة باقية على إطلاقها ، فهذا معنى قوله : العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع ، فبمطلق زنى حد ، وكل شخص حصل منه مطلق شرك قتل بشرطه ، فرجع العموم والإطلاق إلى لفظة واحدة باعتبار مدلولها . واعترض على هذا بأن عدم التكرار جاء من أن مطلق الأمر لا يقتضي [ ص: 44 ] التكرار ، فلا حاجة إلى أخذ ذلك من الإطلاق . ورد بأن إطلاق الأمر أحد المقتضيات للإطلاق في الأزمان وغيرها ، فلا تنافي بينهما .
قلت : وهذا مستمد مما ذكره الشيخ في " شرح الإلمام " حيث قال : إنا نقول : أما كون اللفظ العام في الأشخاص مطلقا في الأحوال وغيرها مما ذكر فصحيح ; وأما الطريقة المذكورة في الاستدلال ، فيلزم منها عود التخصيص إلى صيغة العموم ، ويبقى العموم في تلك الأحوال لا من حيث إن المطلق عام باعتبار الاستغراق ، بل من حيث إن المحافظة على صيغة العموم في الأشخاص واجب ، فالعموم من حيث وجوب الوفاء بمقتضى الصيغة العامة لا من حيث إن المطلق عموم استغراق .
وأما قولهم : إن المطلق يكفي في العمل به مرة ، فنقول : هل يكتفي فيه بالمرة فعلا أو حملا فإن كان الأول ، فمسلم ، وإن كان الثاني فممنوع . وبيانه : أن المطلق إذا فعل مقتضاه مرة ووجدت الصورة الجزئية الداخلة تحت الكل كفى ذلك في العمل به ، كما إذا قال : اعتق رقبة ، ففعل ذلك مرة لا يلزم إعتاقه رقبة أخرى ، لحصول الوفاء بمقتضى الأمر من غير اقتضاء اللفظ العموم ، وكذلك إذا قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت مرة وحنث ، لا يحنث بدخولها ثانية ، لوجود مقتضى اللفظ فعلا من غير اقتضاء العموم . أما إذا عمل به مرة حملا ، أي في أي صورة من صور المطلق لا يلزم التقيد بها ، ولا يكون وفاء بالإطلاق ، لأن مقتضى تقييد الإطلاق بالصورة المعينة حملا أن لا يحصل الاكتفاء بغيرها ، وذلك يناقض الإطلاق ، ومثاله إذا قال : اعتق رقبة ، فإن مقتضى الإطلاق أن يحصل الإجزاء بكل ما يسمى رقبة ، لوجود المطلق في كل من يعتق من الرقاب ، وذلك يقتضي الإجزاء [ ص: 45 ] به ، فإذا خصصنا الحكم بالرقبة المؤمنة منعنا إجزاء الكافرة ، ومقتضى الإطلاق إجزاؤها إن وقع العتق بها ، فالذي فعلناه خلاف مقتضاه .
قال : فتنبه لهذه المواضع التي ترد عليك من ألفاظ الكتاب والسنة إذا كان الإطلاق في الأحوال وغيرها مما يقتضي الحمل على البعض فيه عود التخصيص إلى محل العموم ، هي الأشخاص أو مخالفة مقتضى الإطلاق عند الحمل ، فالحكم بعدم التقييد ، لوجود الوفاء بمقتضى الإطلاق أو العموم إلا بدليل منفصل ، أما إذا كان الإطلاق في صورة لا تقتضي مخالفة صيغة العموم ولا ينافي مقتضى الإطلاق فالكلام صحيح .
ويتعدى النظر بعد القول بالعموم بالنسبة إلى ما ذكرنا إلى أمر آخر ، وهو أن ينظر إلى المعنى المقصود بالعموم ، فإن اقتضى إخراج بعض الصور وعدم الجري على ظاهر العموم ، وجب أن ينظر في قاعدة أخرى ، وهي أن اللفظ إذا قصد به معين ، فهل يحتج به فيما لم يقصد به أو لا ؟ فإن قلنا بالأول ، فلا حاجة بنا إلى هذا ، وإلا احتجنا إلى النظر فيها بعد الانتهاء بمقتضى صيغة العموم ، وأن الوفاء بمقتضاها واجب ، فهذا ما عندي في هذا الموضع .
والذي يزيده وضوحا أن اللفظ إذا كان مطلقا في هذه الأحوال يلزم منه أن يصح التمسك بشيء من العمومات أو أكثرها ، إذ بالنسبة إلى الذوات التي يتعلق بها العموم ، فإذا اكتفينا في العمل بحالة من الحالات تعذر الاستدلال بغيره ، وهذا خلاف ما درج عليه الناس . ما من عام إلا وله أحوال متعددة