لأمر وجودي أو عدمي ، عقلي أو شرعي . ومعناه أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل ، وهو معنى قولهم : الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل ، فمن ادعاه فعليه البيان ، كما في الحسيات أن الجوهر إذا شغل المكان يبقى شاغلا إلى أن يوجد المزيل ، مأخوذ من المصاحبة ، وهو ملازمة ذلك الحكم ما لم يوجد مغير ، فيقال : الحكم الفلاني قد كان فلم نظنن عدمه ، وكل ما كان كذلك فهو مظنون . استصحاب الحال
[ ص: 14 ] البقاء . قال الخوارزمي في الكافي " : وهو آخر مدار الفتوى ، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ، ثم في السنة ، ثم في الإجماع ، ثم في القياس ، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات ، فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه ، وإن كان في ثبوته فالأصل عدم ثبوته . انتهى . وهو حجة يفزع إليها المجتهد إذا لم يجد في الحادثة حجة خاصة . وبه قال الحنابلة والمالكية وأكثر الشافعية والظاهرية ، سواء كان في النفي أو الإثبات . والنفي له حالتان ، لأنه إما أن يكون عقليا أو شرعيا ، وليس له في الإثبات إلا حالة واحدة ، وهي النفي ، لأن العقل لا يثبت حكما وجوديا عندنا . والمذهب الثاني : ونقل عن جمهور الحنفية والمتكلمين ، كأبي الحسين البصري رحمه الله ، أنه ليس بحجة لأن الثبوت في الزمان يفتقر إلى الدليل فكذلك في الزمان الثاني ، لأنه يجوز أن يكون وأن لا يكون ، ويخالف الحسيات ، لأن الله أجرى العادة فيها بذلك ، ولم تجر العادة في الشرعيات فلا تلحق بها . ثم منهم من نقل عنه تخصيص النفي بالأمر الوجودي ومنهم من نقل الخلاف مطلقا . قال الهندي : وهو يقتضي الخلاف في الوجودي والعدمي جميعا لكنه بعيد ، إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة .
[ ص: 15 ] قلت : والمنقول في كتب أكثر الحنفية أنه لا يصح حجة على الغير ، ولكن يصلح للعذر والدفع . وقال صاحب الميزان " من الحنفية : ذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس بحجة لإبقاء ما كان ولا لإثبات أمر لم يكن . وقال أكثر المتأخرين : إنه حجة يجب العمل به في نفسه لإبقاء ما كان ، حتى لا يورث ماله ، ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن ، كحياة المفقود لما كان الظاهر بقاءها صلحت حجة لإبقاء ما كان حتى لا يرث من الأقارب ، والثابت لا يزول بالشك . وغير الثابت لا يثبت بالشك قال : ولكن مشايخنا قالوا : إن هذا القسم يصبح حجة على الخصم في موضع النظر ، ويجب العمل به عند عدم الدليل ، ولا يجوز تركه بالقياس ، كذا ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي ، لأن الحكم متى ثبت شرعا فالظاهر دوامه ولا يزول إلا بدليل يرجح على الأول ، وإن أوجب في الأول شبهة ، ولهذا قالوا : لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد ، لأن الحكم الثابت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في حق كل من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم مع احتماله النسخ إذ ذاك ، وهذا كمن فإن يبني على الطهارة مع احتمال الحدث ، وكمن شك في الحدث بعد الوضوء فإنه يباح له الانتفاع بهما مع الاحتمال ، لأن الثابت لا يزول بالشك انتهى . شك في طلاق امرأته وعتق أمته
[ ص: 16 ] وما ذكروه من أنه يصلح للدفع لا للرفع يشبه قول أصحابنا في مسائل كثيرة عملوا فيها بالأصلين ، كوجوب الفطرة عن العبد المنقطع الخبر ، وعدم جواز عتقه عن الكفارة ، وكما إذا حرم ولا يحكم ببلوغها ، لأن احتمال البلوغ قائم والرضاع كالنسب يكفي فيه الاحتمال . والمذهب الثالث : واختاره ظهر لبنت تسع سنين لبن فارتضع منه صغير القاضي في التقريب " أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله تعالى فإنه لم يكلف إلا أقصى الداخل في مقدوره على العادة ، فإذا فعل ذلك ولم يجد دليلا آخر يبقى الوجوب ولا يسمع فيه إذا انتصب مسئولا في مجلس المناظرة ، فإن المجتهدين إذا تناظروا وتذكروا طرق الاجتهاد فيما يغني المجيب قوله : لم أجد دليلا على الوجوب ، وهل هو إلا مدع فلا يسقط عنه عهدة الطلب بالدلالة .
المذهب الرابع : أنه يصلح للدفع لا للرفع . وهو المنقول عن أكثر الحنفية فيما سبق . قال إلكيا : ويعبرون عن هذا بأن استصحاب الحال صالح لإبقاء ما كان على ما كان ، إحالة على عدم الدليل ، لا لإثبات أمر لم يكن . وبنوا على هذا مسائل : ( منها ) ما لو ، فإنها لا تقبل عن شهد شاهدان أن الملك كان للأب المدعى ، والأب ميت ، لأن الملك ثبت لا بهذه الشهادة ، والبقاء بعد الثبوت إنما يكون باستصحاب الحال فيثبت دفعا عن المشهود عليهم بحق الشهادة ، فإنه كان أحد المدعيين ، فأما لإيجاب حكم مبتدأ فلا ، وملك الوارث لم يكن ، وعلى هذا قالوا : المفقود لا يرث أباه ، وإن كان الملك ذلك الملك بعينه ، لأن الملك غير الأول قال : ونحن نسلم لهم أن دلالة الثبوت غير دلالة البقاء ، لأن أحدهما نص والآخر ظاهر ، ولكن لا نقول : البقاء لعدم المزيل ، بل لبقاء الدليل الظاهر عليه . وهذا لا يجوز أن يكون فيه خلاف . انتهى . أبي حنيفة
المذهب الخامس : أنه يجوز الترجيح به لا غير . نقله [ ص: 17 ] الأستاذ أبو إسحاق عن وقال : إنه الذي يصح عنه لا أنه يحتج به ، الشافعي قلت : ويشهد له قول رضي الله عنه : والنساء محرمات الفروج ، فلا يحللن إلا بأحد أمرين : نكاح ، أو ملك يمين ، والنكاح ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم . قال الشافعي الروياني في البحر " : وهذا استدلال من باستصحاب الحال في جميع هذه المسائل . وقيل : إنه نوع من أنواعه وهو من أقواها ، قال : وأجمع أصحابنا على أن الاستصحاب صالح للترجيح ، واختلفوا في استصلاحه للدليل فظاهر كلام الشافعي أنه قصد به الترجيح وهو الظاهر من المذهب . هذا كلام الشافعي الروياني ، وسيأتي أن هذا الاستدلال من النوع الذي هو محل وفاق ، وقال بعض المتأخرين من أصحابنا : استقرأت الاستصحاب الذي يحكم به الأصحاب فوجدت صورا كثيرة وإنما يستصحب فيها أمر وجودي ، كمن . وأما استصحاب عدم الحكم فيه فلم أعرفه ، وبراءة الذمة ونحوها من الأمور العدمية لا علم فيها . وإنما يمنع من الحكم بخلافها حتى يقوم دليل عليه . المذهب السادس : أن المستصحب للحال إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه صح استصحابه ، كمن استدل على إبطال بيع الغائب ، ونكاح المحرم ، والشغار ، بأن الأصل أن لا عقد ، فلا يثبت إلا بدلالة . وإن كان غرضه إثبات خلاف قول خصمه من وجه يمكن استصحاب الحال في نفي ما أثبته فليس له الاستدلال به كمن يقول في مسألة الحرام : إنه يمين توجب الكفارة لم يستدل على إبطال قول خصومه بأن الأصل أن لا طلاق ولا ظهار ولا لعان ، فيتعارض بالأصل أن لا يمين ولا كفارة ، فيتعارض الاستصحابان ويسقطان . حكاه الأستاذ تيقن الطهارة وشك في الحدث وعكسه أبو منصور البغدادي عن بعض أصحابنا . إذا عرف هذا فلا بد من تنقيح موضع الخلاف ، فإن أكثر الناس يطلقه ويشتبه عليهم موضع النزاع بغيره فنقول : للاستصحاب صور : [ ص: 18 ] إحداها : : كالملك عند جريان القول المقتضي له ، وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام ، ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير النكاح . وهذا لا خلاف في وجوب العمل به ، إلى أن يثبت معارض له . ومن صوره تكرر الحكم بتكرر السبب . . استصحاب دل العقل أو الشرع على ثبوته ودوامه