الثالثة : [ ] إذا أثبتنا الواجب الموسع فقد يكون محدودا بغاية معلومة ، كالصلاة ، وقد يكون وقته العمر ، كالحج وقضاء الفائت من الصلاة بعذر ، فإنه على التراخي على الصحيح ، وسموه الحنفية المشكك ; لأنه أخذ شبها من الصلاة باعتبار أنه لا يستغرق الوقت ، ومن الصوم باعتبار أن السنة الواحدة لا يقع فيها إلا حجة واحدة . والحق : أن الحج لا يسمى موسعا بالحقيقة ; لأنه ليس له وقت منصوص عليه ، والتوسيع والتضييق إنما يكونان في الوقت ، ولكن جرينا في هذا التقسيم على عبارة الجمهور . أما الأول : فيتضيق بطريقين : أحدهما : بالانتهاء إلى آخر الوقت بحيث لا يفضل زمانه عنه . وثانيهما : بغلبة الظن ; لعدم البقاء إلى آخر الوقت ، فإنه مهما غلب ذلك على ظنه يجب عليه الفعل قبله . فالحاصل أنه يعصي فيه بشيئين : أحدهما : بخروج وقته . والثاني : بتأخيره عن وقت يظن فوته بعده ، كالموسع بالعمر ، ونقل الواجب الموسع قد يكون محدودا وقد يكون وقته العمر في مختصره " الاتفاق على عصيانه في هذه الحالة [ ص: 291 ] سواء بقي بعد أم لا ، ولو مات في أثناء الوقت لم يعص على الأصح ، وقيل : يعصي . قال في المستصفى " : وهو خلاف إجماع ابن الحاجب السلف . قال : بل محال أن يعصي ، وقد جاز له التأخير ، فإن قال : جاز بشرط سلامة العاقبة . قلنا : محال ; لأن العاقبة مستورة عنه . وأما الثاني : وهو في الموسع في العمر فيعصي فيه بشيئين : أحدهما : بالتأخير عن وقت يظن فوته بعده . والثاني : بالموت على الصحيح سواء غلب على ظنه قبل ذلك البقاء أم لا ; لأن التأخير له مشروط بسلامة العاقبة ، وهو مشكل ; لأن العاقبة عنه مستورة ، والثاني : لا يموت عاصيا وهو أشكل مما قبله ، لعدم تحقق معنى الوجوب .
والثالث : الفرق فيه بين الشيخ فيعصي ، والشاب فلا ، وهو اختيار الغزالي ، والصحيح : الأول ، ورفع الإشكال عنه سنذكره . وهذا القسم يخالف ما قبله ، فإن الموت في أثناء الوقت لا يعصي به على الأصح ، والفرق بأن بالموت خرج وقت الحج ، وبالموت في أثناء وقت الصلاة لم يخرج وقتها ، ونظير الحج : أن يموت آخر وقت الصلاة ، فإنه يعصي بخروج الوقت . وإذا قلنا : يعصي فله شرطان : [ ص: 292 ] أحدهما : أن لا يعزم على الفعل فإن عزم عليه ومات في أثنائه فلا يعصي بالإجماع نقله صاحب المستصفى " والآمدي . قال الغزالي : فإنا نعلم أنهم كانوا لا يؤثمون من مات فجأة بعد انقضاء مقدار أربع ركعات من وقت الزوال ، وكانوا لا ينسبونه إلى تقصير لا سيما إذا اشتغل بالوضوء ، ونهض إلى المسجد ، فمات في الطريق ، بل محال أن يعصي وقد جوز له التأخير في فعل ما يجوز ، فكيف يمكن تعصيته ؟ . انتهى . والثاني : أن يموت بعد أداء إمكان الصلاة ، فإن مات قبل الإمكان لم يعص بلا خلاف . نعم حكوا عن أبي يحيى البلخي من أصحابنا أن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا مستقرا ، وليس إمكان الأداء معتبرا ، ولعله يقرب من التكليف بالمحال .
وقد استصعب إمام الحرمين وصف الصلاة بالوجوب في أول الوقت مع القول بأن من مات في أثناء الوقت لا يعصي فإنه يؤدي إلى عدم الوجوب ، وقال : لا معنى له إلا على تأويل ، وهو أنها لو أقيمت لوقعت على مرتبة الواجبات . ورده ابن السمعاني في القواطع " ، وقال : التأخير على هذا الوجه ليس فيه تفويت المأمور به ، فإذا مات بغتة فهو غير مفوت له ; لأنه إنما أخر من وقت إلى مثله ، وهذا لا يعد تفويتا ; لأنه فعل ما كان مطيقا له إلا أنه صار فائتا بمعنى من قبل الله تعالى ، لا من قبل العبد ، فلم يجز وصفه بالعصيان ، وهذا كالأمر المضيق إذا لم تساعده الحياة في ذمته .
[ ص: 293 ] وزعم الإمام في المحصول " : أن الموسع بالعمر إنما يتضيق بطريق واحد ، وهو التأخير عن وقت يظن فوته فيه . قال : ولو لم نقل به فإما أن يقال بجواز التأخير أبدا ، وهو باطل ; لأنه يرفع حقيقة الوجوب ، وإما إلى زمن غير معين ، وهو باطل ; لأنه تكليف ما لا يطاق ، فلم يبق إلا أن نقول : يجوز له التأخير بشرط أن يغلب على ظنه أنه يبقى سواء بقي أم لا ، وإذا غلب على ظنه أنه لا يبقى عصى بالتأخير سواء مات أم لا . وهذا الذي قاله قول ، والصحيح : أنه يعصي بالموت سواء غلب على ظنه البقاء أم لا ، ولا يلزمه تكليف ما لا يطاق ; لأنه كان يمكنه المبادرة ، فالتمكين موجود ، وجواز التأخير بشرط سلامة العاقبة ، وتبين خلافه ، فتبين عدم الجواز ، والوجوب محقق مع التمكن فيعصي ، ويكون التأخير له ظاهرا وباطنا على رأي الإمام ، وظاهرا فقط على رأي الفقهاء ، والباطن مجهول الحال . وإذا قلنا بالعصيان فهل يتبين ذلك من أول سني الإمكان أو من آخرها أو لا يضاف إلى سنة بعينها ؟ ثلاثة أوجه ، أصحها : الثاني .
وغلط المقترح في " تعليقه " على البرهان " حيث قال : وتوهم الإمام أن من مات ولم يحج انبسطت المعصية على جميع سني الإمكان ، وأنه عاص في كل زمن ولم يقل به أحد ، وإنما يعصي بترك الفعل المطلوب . انتهى . بقي الإشكال في قولهم : جواز التأخير بشرط سلامة العاقبة وأن ذلك ربط للتكليف بمجهول .
قال ابن القشيري : هذا هوس ; لأن الممتنع جهالة تمنع فهم الخطاب ، أو إمكان الامتثال ، فأما تكليفه المرء شيئا مع تقدير عمره مدة طويلة ، وتنبيهه أنه إذا امتثله خرج عن العهدة ، وإن أخلي العمر منه تعرض للمعصية فلا استحالة فيه . [ ص: 294 ] ورده بعضهم بأن سلامة العاقبة متعلق الجواز ، والجواز ليس بتكليف بل مباح ، ولا يلزم من ترك المباح تكليف ما لا يطاق ، بل غايته أنه يلزمه الشك في الإباحة . وقال في كتاب الإحكام " : سأل ابن حزم من أجاز تأخير الحج ، فقال : متى صار المؤخر للحج إلى أن مات عاصيا ؟ أفي حياته ؟ هذا غير قولكم ، أو بعد موته ؟ فالموت لا يثبت على أحد معصية لم تكن لازمة في حياته . فأجابه أبو بكر محمد بن داود أبو الحسين بن القطان الشافعي ، فقال : إنما كان له التأخير بشرط أن يفعل قبل أن يموت ، فلما مات قبل أن يفعل علمنا أنه لم يكن مباحا له التأخير . قال : ونحن نقول : لم يحقق ابن حزم الجواب على أصول أبو الحسين ، فمن حلف بالطلاق أنه يطلق امرأته إنها لا تطلق إلا في آخر أوقات صحته التي كان فيها قادرا على الطلاق . قال : ونحن نجيب عن جوابه ، فنقول : قال الله تعالى : { الشافعي لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فإنما يأثم المكلف بالترك إذا علم أنه ليس له تركه ولم يطلع الله أحدا على وقت موته ، ولا عرفه بآخر أوقات موته ، ولا قامت عليه حجة ، ولا يوصف بالعصيان بالنسبة إلى ذلك الوقت ، فبقي سؤال أبي بكر بحسبه . انتهى .
وليس كما قال ، ويقال : لأبي بكر : قولك : إن تعصيته في حياته خلاف قولكم ممنوع ، بل هو قولنا وتنسب المعصية إلى آخر سني الإمكان قبيل الموت على الصحيح ، وجواب ابن القطان كأنه فرعه على الوجه المرجوح أن المعصية من أول سني الإمكان ، ولهذا توجه عليه سؤال [ ص: 295 ] بصورة الطلاق ، ونحن إذا فرعنا على الأصح فهما سواء ; لأن كلا منهما ترتب عليه الحكم قبيل الموت في الوقت الذي يسعه ، فقبيل الموت في مسألة الطلاق هو آخر تمكنه ، فوقع حينئذ كذلك آخر سني الاستطاعة وقت تمكنه ، فيعصي إذ ذاك ، وخرج الجواب بذلك على أصول ابن حزم . وقال الشافعي ابن السمعاني في " الاصطلام " : وأما تسمية تارك الحج عاصيا فقد تخبط فيه الأصحاب .
والأولى عندي : أنه يجوز له التأخير ، ولا يوصف بالعصيان إلا أن يغلب على ظنه الموت ، فإذا غلب وأخر ومات لقي الله عاصيا ، وإن مات بغتة قبل أن يغلب على ظنه لا يكون عاصيا ، فإن قالوا : قد ترك واجبا عليه إلى أن مات ، فلا يجوز أن لا يكون عاصيا . قلنا : نعم ترك واجبا موسعا عليه ، وقد كان ينتظر تضييقه عليه بغلبة الظن ، وذلك أمر معهود في غالب أحوال الناس ، فإن اخترمته المنية من قبل أن يبلغ المعهود من أجناسه لم يكن عليه عتب ، ولم يعص ; لأنه كان على عزم إذا تضيق لا يؤخر .