[ على ثلاثة أوجه ] الفائدة الرابعة عشرة : حال المفتي مع المستفتي
المفتي إذا سئل عن مسألة فإما أن يكون قصد السائل فيها معرفة حكم الله ورسوله ليس إلا ، وإما أن يكون قصده معرفة ما قاله الإمام الذي شهر [ ص: 135 ] المفتي نفسه باتباعه وتقليده دون غيره من الأئمة ، وإما أن يكون مقصوده معرفة ما ترجح عند ذلك المفتي ، وما يعتقده فيها ; لاعتقاده علمه ودينه وأمانته ، فهو يرضى تقليده [ هو ] ، وليس له غرض في قول إمام بعينه ; فهذه أجناس الفتيا التي ترد على المفتين .
ففرض المفتي في القسم الأول أن يجيب بحكم الله ورسوله إذا عرفه وتيقنه ، لا يسعه غير ذلك ، وأما في القسم الثاني فإذا عرف قول الإمام نفسه وسعه أن يخبر به ، ولا يحل له أن ينسب إليه القول ويطلق عليه أنه قوله بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها من كلام المنتسبين إليه ; فإنه قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم ; فليس كل ما في كتبهم منصوصا عن الأئمة ، بل كثير منه يخالف نصوصهم ، وكثير منه لا نص لهم فيه ، وكثير منه يخرج على فتاويهم ، وكثير منه أفتوا به بلفظه أو بمعناه ، فلا يحل لأحد أن يقول " هذا قول فلان ومذهبه " إلا أن يعلم يقينا أنه قوله ومذهبه ، فما أعظم خطر المفتي وأصعب مقامه بين يدي الله تعالى ، .
وأما القسم الثالث : فإنه يسعه أن يخبر المستفتي بما عنده في ذلك مما يغلب على ظنه أنه الصواب ، بعد بذل جهده واستفراغ وسعه ، ومع هذا فلا يلزم المستفتي الأخذ بقوله ، وغايته أنه يسوغ له الأخذ به ، فلينزل المفتي نفسه في منزلة من هذه المنازل الثلاث ، وليقم بواجبها ; فإن الدين دين الله والله سبحانه ولا بد سائله عن كل ما أفتى به ، وهو موقرة عليه ، ومحاسب ولا بد ، والله المستعان .