[ ينبغي للمفتي أن ينبه السائل إلى الاحتراز عن الموهم ] الفائدة الخامسة :
، وهذا باب لطيف من أبواب العلم والنصح والإرشاد . إذا أفتى المفتي للسائل بشيء ينبغي له أن ينبهه على وجه الاحتراز مما قد يذهب إليه الوهم منه من خلاف الصواب
ومثال هذا قوله صلى الله عليه وسلم { } فتأمل كيف أتبع الجملة الأولى بالثانية ; رفعا لتوهم إهدار دماء الكفار مطلقا وإن كانوا في عهدهم ; فإنه لما قال { لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده } فربما ذهب الوهم إلى أن دماءهم هدر ، ولهذا لو قتل أحدهم مسلم لم يقتل به ، فرفع هذا التوهم بقوله { لا يقتل مؤمن بكافر } ولقد خفيت هذه اللطيفة الحسنة على من قال : يقتل المسلم بالكافر المعاهد ، وقدر في الحديث : ولا ذو عهد في عهده بكافر ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم { ولا ذو عهد في عهده } فلما كان نهيه عن الجلوس عليها نوع تعظيم لها عقبه بالنهي عن المبالغة في تعظيمها حتى تجعل قبلة . لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها
وهذا بعينه مشتق من القرآن ، كقوله تعالى لنساء نبيه : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا } فنهاهن عن الخضوع بالقول ، فربما ذهب الوهم إلى الإذن في الإغلاظ في القول والتجاوز ، فرفع هذا التوهم بقوله : { وقلن قولا معروفا } ومن ذلك قوله تعالى [ ص: 123 ] { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } لما أخبر سبحانه بإلحاق الذرية ولا عمل لهم بآبائهم في الدرجة فربما توهم متوهم أن يحط الآباء إلى درجة الذرية ، فرفع هذا التوهم بقوله : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } أي ما نقصنا من الآباء شيئا من أجور أعمالهم ، بل رفعنا ذريتهم إلى درجتهم ، ولم نحطهم إلى درجتهم بنقص أجورهم .
ولما كان الوهم قد يذهب إلى أنه يفعل ذلك بأهل النار كما يفعله بأهل الجنة قطع هذا الوهم بقوله تعالى { : كل امرئ بما كسب رهين } ومن هذا قوله تعالى { : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء } فلما كان ذكر ربوبيته البلدة الحرام قد يوهم الاختصاص عقبه بقوله : { وله كل شيء } ومن ذلك قوله تعالى { : ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا } فلما ذكر كفايته للمتوكل عليه فربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل فعقبه بقوله : { قد جعل الله لكل شيء قدرا } أي وقتا لا يتعداه فهو يسوقه إلى وقته الذي قدره له .
فلا يستعجل المتوكل ويقول : قد توكلت ، ودعوت فلم أر شيئا ولم تحصل لي الكفاية ، فالله بالغ أمره في وقته الذي قدره له ، وهذا كثير جدا في القرآن والسنة ، وهو باب لطيف من أبواب فهم النصوص .