[ جواب الذين أبطلوا الحيل ]
قال
nindex.php?page=treesubj&link=28207_28204المبطلون للحيل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فسبحان الله الذي فرض الفرائض وحرم المحارم وأوجب الحقوق رعاية لمصالح العباد في المعاش والمعاد ، وجعل شريعته الكاملة قياما للناس وغذاء لحفظ حياتهم ، ودواء لدفع أدوائهم ، وظله الظليل الذي من استظل به أمن من الحرور ، وحصنه الحصين الذي من دخله نجا من الشرور ، فتعالى شارع هذه الشريعة
[ ص: 162 ] الفائقة لكل شريعة أن يشرع فيها الحيل التي تسقط فرائضه ، وتحل محارمه ، وتبطل حقوق عباده ، ويفتح للناس أبواب الاحتيال ، وأنواع المكر والخداع ، وأن يبيح التوصل بالأسباب المشروعة ، إلى الأمور المحرمة الممنوعة ، وأن يجعلها مضغة لأفواه المحتالين ، عرضة لأغراض المخادعين الذين يقولون ما لا يفعلون ، ويظهرون خلاف ما يبطنون ، ويرتكبون العبث الذي لا فائدة فيه سوى ضحكة الضاحكين وسخرية الساخرين .
فيخادعون الله كما يخادعون الصبيان ، ويتلاعبون بحدوده كتلاعب المجان ، فيحرمون الشيء ثم يستحلونه إياه بعينه بأدنى الحيل ، ويسلكون إليه نفسه طريقا توهم أن المراد غيره ، وقد علموا أنه هو المراد لا غيره ، ويسقطون الحقوق التي وصى الله بحفظها وأدائها بأدنى شيء ، ويفرقون بين متماثلين من كل وجه لاختلافهما في الصورة أو الاسم أو الطريق الموصل إليهما ، ويستحلون بالحيل ما هو أعظم فسادا مما يحرمونه ويسقطون بها ما هو أعظم وجوبا مما يوجبونه . والحمد لله الذي نزه شريعته عن هذا التناقض والفساد ، وجعلها كفيلة وافية بمصالح خلقه في المعاش والمعاد ، وجعلها من أعظم آياته الدالة عليه ، ونصبها طريقا مرشدا لمن سلكه إليه ; فهو نوره المبين ، وحصنه الحصين ، وظله الظليل ، وميزانه الذي لا يعول ، لقد تعرف بها إلى ألباء عباده غاية التعرف ، وتحبب بها إليهم غاية التحبب ، فأنسوا بها من حكمته البالغة ، وتمت بها عليهم منه نعمه السابغة ، ولا إله إلا الله الذي في شرعه أعظم آية تدل على تفرده بالإلهية وتوحده بالربوبية ، وأنه الموصوف بصفات الكمال ، المستحق لنعوت الجلال ، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى وله المثل الأعلى ، فلا يدخل السوء في أسمائه ولا النقص والعيب في صفاته ، ولا العبث ولا الجور في أفعاله ، بل هو منزه في ذاته وأوصافه وأفعاله وأسمائه عما يضاد كماله بوجه من الوجوه . تبارك اسمه ، وتعالى جده ، وبهرت حكمته ، وتمت نعمته ، وقامت على عباده حجته ، والله أكبر كبيرا أن يكون في شرعه تناقض واختلاف ، فلو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
بل هي شريعة مؤتلفة النظام ، متعادلة الأقسام ، مبرأة من كل نقص ، مطهرة من كل دنس مسلمة لا شية فيها ، مؤسسة على العدل والحكمة ، والمصلحة والرحمة ، قواعدها ومبانيها ، إذا حرمت فسادا حرمت ما هو أولى منه أو نظيره ، وإذا رعت صلاحا رعت ما هو فوقه أو شبهه ; فهي صراطه المستقيم الذي لا أمت فيه ولا عوج ، وملته الحنيفية السمحة التي لا ضيق فيها ولا حرج ، بل هي حنيفية التوحيد سمحة العمل ، لم تأمر بشيء فيقول العقل لو نهت عنه لكان أوفق ، ولم تنه عن شيء فيقول الحجا لو أباحته لكان أرفق ، بل أمرت بكل صلاح ، ونهت عن كل فساد ، وأباحت كل طيب ، وحرمت كل خبيث ، فأوامرها
[ ص: 163 ] غذاء ودواء ، ونواهيها حمية وصيانة ، وظاهرها زينة لباطنها ، وباطنها أجمل من ظاهرها ، شعارها الصدق ، وقوامها الحق ، وميزانها العدل ، وحكمها الفصل ، لا حاجة بها ألبتة إلى أن تكمل بسياسة ملك أو رأي ذي رأي أو قياس فقيه أو ذوق ذي رياضة أو منام ذي دين وصلاح ، بل لهؤلاء كلهم أعظم الحاجة إليها ، ومن وفق للصواب فلاعتماده وتعويله عليها .
لقد أكملها الذي أتم نعمته علينا بشرعها قبل سياسات الملوك ، وحيل المتحيلين ، وأقيسة القياسيين ، وطرائق الخلافيين ، وأين كانت هذه الحيل والأقيسة والقواعد المتناقضة والطرائق القدد وقت نزول قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا } ؟ وأين كانت يوم قوله صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=32561لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } .
ويوم قوله صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34281ما تركت من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أعلمتكموه }
؟ وأين كانت عند قول
nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر : لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما .
وعند قول القائل
لسلمان : لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة ، فقال : أجل ؟ فأين علمهم الحيل والمخادعة والمكر وأرشدهم إليه ودلهم عليه ؟ كلا والله ، بل حذرهم أشد التحذير ، وأوعدهم عليه أشد الوعيد ، وجعله منافيا للإيمان ، وأخبر عن لعنة
اليهود لما ارتكبوه ، وقال لأمته : {
لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل } ، وأغلق أبواب المكر والاحتيال ، وسد الذرائع ، وفصل الحلال من الحرام ، وبين الحدود ، وقسم شريعته إلى حلال بين وحرام بين ، وبرزخ بينهما ; فأباح الأول ، وحرم الثاني ، وحض الأمة على اتقاء الثالث خشية الوقوع في الحرام ، وقد أخبر الله تعالى عن عقوبة المحتالين على حل ما حرمه عليهم وإسقاط ما فرضه عليهم في غير موضع من كتابه .
قال
أبو بكر الآجري : وقد ذكر بعض
nindex.php?page=treesubj&link=28207_28204الحيل الربوية التي يفعلها الناس : لقد مسخ
اليهود قردة بدون هذا ، وصدق والله لآكل حوت صيد يوم السبت أهون عند الله وأقل جرما من آكل الربا الذي حرمه الله بالحيل والمخادعة ، ولكن كما قال
الحسن : عجل لأولئك عقوبة تلك الأكلة الوخيمة وأرجئت عقوبة هؤلاء . وقال الإمام
أبو يعقوب الجوزجاني : وهل أصاب الطائفة من
بني إسرائيل المسخ إلا باحتيالهم على أمر الله بأن حفروا الحفائر على الحيتان في يوم سبتهم فمنعوها الانتشار يومها
[ ص: 164 ] إلى الأحد فأخذوها . وكذلك السلسلة التي كانت تأخذ بعنق الظالم فاحتال لها صاحب الدرة إذ صيرها في قصبة ثم دفع القصبة إلى خصمه وتقدم إلى السلسلة ليأخذها فرفعت .
وقال بعض الأئمة : في هذه القصة مزجرة عظيمة للمتعاطين الحيل على المناهي الشرعية ممن تلبس بعلم الفقه وليس بفقيه ; إذ الفقيه من يخشى الله عز وجل في الربويات ، واستعارة التيس الملعون لتحليل المطلقات ، وغير ذلك من العظائم والمصائب الفاضحات ، التي لو اعتمدها مخلوق مع مخلوق لكان في نهاية القبح ، فكيف بمن يعلم السر وأخفى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؟
وقال : وإذا وازن اللبيب بين حيلة أصحاب السبت ، والحيل التي يتعاطاها أرباب الحيل في كثير من الأبواب ظهر له التفاوت ومراتب المفسدة التي بينها وبين هذه الحيل ، فإذا عرف قدر الشرع ، وعظمة الشارع وحكمته وما اشتمل عليه شرعه من رعاية مصالح العباد تبين له حقيقة الحال ، وقطع بأن الله تعالى يتنزه ويتعالى أن يشرع لعباده نقض شرعه وحكمته بأنواع الخداع والاحتيال .
[ جَوَابُ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْحِيَلَ ]
قَالَ
nindex.php?page=treesubj&link=28207_28204الْمُبْطِلُونَ لِلْحِيَلِ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَ الْفَرَائِضَ وَحَرَّمَ الْمَحَارِمَ وَأَوْجَبَ الْحُقُوقَ رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ الْكَامِلَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَغِذَاءً لِحِفْظِ حَيَاتِهِمْ ، وَدَوَاءً لِدَفْعِ أَدْوَائِهِمْ ، وَظِلَّهُ الظَّلِيلَ الَّذِي مَنْ اسْتَظَلَّ بِهِ أَمِنَ مِنْ الْحَرُورِ ، وَحِصْنَهُ الْحَصِينَ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ نَجَا مِنْ الشُّرُورِ ، فَتَعَالَى شَارِعُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ
[ ص: 162 ] الْفَائِقَةِ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ أَنْ يَشْرَعَ فِيهَا الْحِيَلَ الَّتِي تُسْقِطُ فَرَائِضَهُ ، وَتُحِلُّ مَحَارِمَهُ ، وَتُبْطِلُ حُقُوقَ عِبَادِهِ ، وَيَفْتَحُ لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الِاحْتِيَالِ ، وَأَنْوَاعَ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ ، وَأَنْ يُبِيحَ التَّوَصُّلَ بِالْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ ، إلَى الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُضْغَةً لِأَفْوَاهِ الْمُحْتَالِينَ ، عُرْضَةً لِأَغْرَاضِ الْمُخَادِعِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ، وَيُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ ، وَيَرْتَكِبُونَ الْعَبَثَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ سِوَى ضِحْكَةِ الضَّاحِكِينَ وَسُخْرِيَةِ السَّاخِرِينَ .
فَيُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ ، وَيَتَلَاعَبُونَ بِحُدُودِهِ كَتَلَاعُبِ الْمُجَّانِ ، فَيُحَرِّمُونَ الشَّيْءَ ثُمَّ يَسْتَحِلُّونَهُ إيَّاهُ بِعَيْنِهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ ، وَيَسْلُكُونَ إلَيْهِ نَفْسَهُ طَرِيقًا تُوهِمُ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهُ ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ لَا غَيْرُهُ ، وَيُسْقِطُونَ الْحُقُوقَ الَّتِي وَصَّى اللَّهُ بِحِفْظِهَا وَأَدَائِهَا بِأَدْنَى شَيْءٍ ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصُّورَةِ أَوْ الِاسْمِ أَوْ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِمَا ، وَيَسْتَحِلُّونَ بِالْحِيَلِ مَا هُوَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِمَّا يُحَرِّمُونَهُ وَيُسْقِطُونَ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ وُجُوبًا مِمَّا يُوجِبُونَهُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَّهَ شَرِيعَتَهُ عَنْ هَذَا التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ ، وَجَعَلَهَا كَفِيلَةٍ وَافِيَةً بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، وَجَعَلَهَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ ، وَنَصَبَهَا طَرِيقًا مُرْشِدًا لِمَنْ سَلَكَهُ إلَيْهِ ; فَهُوَ نُورُهُ الْمُبِينُ ، وَحِصْنُهُ الْحَصِينُ ، وَظِلُّهُ الظَّلِيلُ ، وَمِيزَانُهُ الَّذِي لَا يَعُولُ ، لَقَدْ تَعَرَّفَ بِهَا إلَى أَلِبَّاءِ عِبَادِهِ غَايَةَ التَّعَرُّفِ ، وَتَحَبَّبَ بِهَا إلَيْهِمْ غَايَةَ التَّحَبُّبِ ، فَأَنِسُوا بِهَا مِنْ حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ ، وَتَمَّتْ بِهَا عَلَيْهِمْ مِنْهُ نِعَمُهُ السَّابِغَةُ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الَّذِي فِي شَرْعِهِ أَعْظَمُ آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَتَوَحُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، الْمُسْتَحِقُّ لِنُعُوتِ الْجَلَالِ ، الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلَى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ، فَلَا يَدْخُلُ السُّوءُ فِي أَسْمَائِهِ وَلَا النَّقْصُ وَالْعَيْبُ فِي صِفَاتِهِ ، وَلَا الْعَبَثُ وَلَا الْجَوْرُ فِي أَفْعَالِهِ ، بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ فِي ذَاتِهِ وَأَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ عَمَّا يُضَادُّ كَمَالِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . تَبَارَكَ اسْمُهُ ، وَتَعَالَى جَدُّهُ ، وَبَهَرَتْ حِكْمَتُهُ ، وَتَمَّتْ نِعْمَتُهُ ، وَقَامَتْ عَلَى عِبَادِهِ حُجَّتُهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا أَنْ يَكُونَ فِي شَرْعِهِ تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ ، فَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا
بَلْ هِيَ شَرِيعَةٌ مُؤْتَلِفَةُ النِّظَامِ ، مُتَعَادِلَةُ الْأَقْسَامِ ، مُبَرَّأَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ ، مُطَهَّرَةٌ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ، مُؤَسَّسَةٌ عَلَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ ، وَالْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ ، قَوَاعِدُهَا وَمَبَانِيهَا ، إذَا حَرَّمَتْ فَسَادًا حَرَّمَتْ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ أَوْ نَظِيرَهُ ، وَإِذَا رَعَتْ صَلَاحًا رَعَتْ مَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ شِبْهَهُ ; فَهِيَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا أَمْتَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ ، وَمِلَّتُهُ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي لَا ضِيقَ فِيهَا وَلَا حَرَجَ ، بَلْ هِيَ حَنِيفِيَّةُ التَّوْحِيدِ سَمْحَةُ الْعَمَلِ ، لَمْ تَأْمُرْ بِشَيْءٍ فَيَقُولُ الْعَقْلُ لَوْ نَهَتْ عَنْهُ لَكَانَ أَوْفَقَ ، وَلَمْ تَنْهَ عَنْ شَيْءٍ فَيَقُولُ الْحِجَا لَوْ أَبَاحَتْهُ لَكَانَ أَرْفَقِ ، بَلْ أَمَرَتْ بِكُلِّ صَلَاحٍ ، وَنَهَتْ عَنْ كُلِّ فَسَادٍ ، وَأَبَاحَتْ كُلِّ طَيِّبٍ ، وَحَرَّمَتْ كُلِّ خَبِيثٍ ، فَأَوَامِرُهَا
[ ص: 163 ] غِذَاءٌ وَدَوَاءٌ ، وَنَوَاهِيهَا حِمْيَةٌ وَصِيَانَةٌ ، وَظَاهِرُهَا زِينَةٌ لِبَاطِنِهَا ، وَبَاطِنُهَا أَجْمَلُ مِنْ ظَاهِرِهَا ، شِعَارُهَا الصِّدْقُ ، وَقَوَامُهَا الْحَقُّ ، وَمِيزَانُهَا الْعَدْلُ ، وَحُكْمُهَا الْفَصْلُ ، لَا حَاجَةَ بِهَا أَلْبَتَّةَ إلَى أَنْ تُكَمَّلَ بِسِيَاسَةِ مَلِكٍ أَوْ رَأْيِ ذِي رَأْيٍ أَوْ قِيَاسِ فَقِيهٍ أَوْ ذَوْقِ ذِي رِيَاضَةٍ أَوْ مَنَامِ ذِي دِينٍ وَصَلَاحٍ ، بَلْ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ أَعْظَمُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، وَمَنْ وُفِّقَ لِلصَّوَابِ فَلِاعْتِمَادِهِ وَتَعْوِيلِهِ عَلَيْهَا .
لَقَدْ أَكْمَلَهَا الَّذِي أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِشَرْعِهَا قَبْلَ سِيَاسَاتِ الْمُلُوكِ ، وَحِيلَ الْمُتَحَيِّلِينَ ، وَأَقْيِسَةِ الْقِيَاسِيِّينَ ، وَطَرَائِقِ الْخِلَافِيِّينَ ، وَأَيْنَ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ وَالْأَقْيِسَةُ وَالْقَوَاعِدُ الْمُتَنَاقِضَةُ وَالطَّرَائِقُ الْقِدَدُ وَقْتَ نُزُولِ قَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } ؟ وَأَيْنَ كَانَتْ يَوْمَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=32561لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا ، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } .
وَيَوْمَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34281مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا أَعْلَمْتُكُمُوهُ }
؟ وَأَيْنَ كَانَتْ عِنْدَ قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=1584أَبِي ذَرٍّ : لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا .
وَعِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ
لِسَلْمَانَ : لَقَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ ، فَقَالَ : أَجَلْ ؟ فَأَيْنَ عَلَّمَهُمْ الْحِيَلَ وَالْمُخَادَعَةَ وَالْمَكْرَ وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ ؟ كَلًّا وَاَللَّهِ ، بَلْ حَذَّرَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ ، وَأَوْعَدَهُمْ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْوَعِيدِ ، وَجَعَلَهُ مُنَافِيًا لِلْإِيمَانِ ، وَأَخْبَرَ عَنْ لَعْنَةِ
الْيَهُودِ لِمَا ارْتَكَبُوهُ ، وَقَالَ لِأُمَّتِهِ : {
لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَدْنَى الْحِيَلِ } ، وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ ، وَسَدَّ الذَّرَائِعَ ، وَفَصَّلَ الْحَلَالَ مِنْ الْحَرَامِ ، وَبَيَّنَ الْحُدُودَ ، وَقَسَّمَ شَرِيعَتَهُ إلَى حَلَالٍ بَيِّنٍ وَحَرَامٍ بَيِّنٍ ، وَبَرْزَخَ بَيْنَهُمَا ; فَأَبَاحَ الْأَوَّلَ ، وَحَرَّمَ الثَّانِي ، وَحَضَّ الْأُمَّةَ عَلَى اتِّقَاءِ الثَّالِثِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عُقُوبَةِ الْمُحْتَالِينَ عَلَى حِلِّ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَإِسْقَاطِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ .
قَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ : وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ
nindex.php?page=treesubj&link=28207_28204الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا النَّاسُ : لَقَدْ مُسِخَ
الْيَهُودَ قِرَدَةً بِدُونِ هَذَا ، وَصَدَقَ وَاَللَّهِ لَآكِلُ حُوتٍ صِيدَ يَوْمَ السَّبْتِ أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقَلُّ جُرْمًا مِنْ آكِلِ الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ بِالْحِيَلِ وَالْمُخَادَعَةِ ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ
الْحَسَنُ : عُجِّلَ لِأُولَئِكَ عُقُوبَةُ تِلْكَ الْأَكْلَةِ الْوَخِيمَةِ وَأُرْجِئَتْ عُقُوبَةُ هَؤُلَاءِ . وَقَالَ الْإِمَامُ
أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ : وَهَلْ أَصَابَ الطَّائِفَةَ مِنْ
بَنِي إسْرَائِيلَ الْمَسْخُ إلَّا بِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ حَفَرُوا الْحَفَائِرَ عَلَى الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ سَبْتِهِمْ فَمَنَعُوهَا الِانْتِشَارَ يَوْمَهَا
[ ص: 164 ] إلَى الْأَحَدِ فَأَخَذُوهَا . وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ بِعُنُقِ الظَّالِمِ فَاحْتَالَ لَهَا صَاحِبُ الدُّرَّةِ إذْ صَيَّرَهَا فِي قَصَبَةٍ ثُمَّ دَفَعَ الْقَصَبَةَ إلَى خَصْمِهِ وَتَقَدَّمَ إلَى السِّلْسِلَةِ لِيَأْخُذَهَا فَرُفِعَتْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَزْجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُتَعَاطِينَ الْحِيَلَ عَلَى الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ مِمَّنْ تَلَبَّسَ بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ ; إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الرِّبَوِيَّاتِ ، وَاسْتِعَارَةُ التَّيْسِ الْمَلْعُونِ لِتَحْلِيلِ الْمُطَلَّقَاتِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَظَائِمِ وَالْمَصَائِبِ الْفَاضِحَاتِ ، الَّتِي لَوْ اعْتَمَدَهَا مَخْلُوقٌ مَعَ مَخْلُوقٍ لَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ؟
وَقَالَ : وَإِذَا وَازَنَ اللَّبِيبُ بَيْنَ حِيلَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ ، وَالْحِيَلِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَرْبَابُ الْحِيَلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَبْوَابِ ظَهَرَ لَهُ التَّفَاوُتُ وَمَرَاتِبُ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْحِيَلِ ، فَإِذَا عَرَفَ قَدْرَ الشَّرْعِ ، وَعَظَمَةَ الشَّارِعِ وَحِكْمَتَهُ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ شَرْعُهُ مِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ ، وَقَطَعَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَنَزَّهُ وَيَتَعَالَى أَنْ يُشَرِّعَ لِعِبَادِهِ نَقْضَ شَرْعِهِ وَحِكْمَتِهِ بِأَنْوَاعِ الْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ .