[ ] : قال أرباب الحيل : قد أكثرتم من ذم الحيل ، وأجلبتم بخيل الأدلة ورجلها وسمينها ومهزولها ، فاستمعوا الآن تقريرها واشتقاقها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام ، وأنه لا يمكن أحدا إنكارها . حجج الذين جوزوا الحيل
قال الله تعالى لنبيه أيوب : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } فأذن لنبيه أيوب أن يتحلل من يمينه بالضرب بالضغث ، وقد كان نذر أن يضربها ضربات معدودة ، وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقة ; فأرشده تعالى إلى الحيلة في خروجه من اليمين ، فنقيس عليه سائر الباب ، ونسميه وجوه المخارج من المضائق ، ولا تسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها .
وأخبر تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام أنه جعل صواعه في رحل أخيه يتوصل بذلك إلى أخذه من إخوته ، ومدحه بذلك ، وأخبر أنه برضاه وإذنه ، كما قال : { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم } فأخبر أن هذا كيده لنبيه وأنه بمشيئته ، وأنه يرفع درجة عبده بلطيف العلم ودقيقه الذي لا يهتدي إليه سواه ، وأن ذلك من علمه وحكمته .
وقال تعالى : { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون } فأخبر تعالى أنه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله ، وكثير من الحيل هذا شأنها ، يمكر بها على الظالم [ ص: 150 ] والفاجر ومن يعسر تخليص الحق منه ; فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم وقهر ظالم ونصر حق وإبطال باطل .
والله تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن . ولكن جازاهم بجنس عملهم ، وليعلم عباده أن المكر الذي يتوصل به إلى إظهار الحق ويكون عقوبة للماكر ليس قبيحا .
وكذلك قوله : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } وخداعه لهم أن يظهر لهم أمرا ويبطن لهم خلافه . فما تنكرون على أرباب الحيل الذين يظهرون أمرا يتوصلون به إلى باطن غيره اقتداء بفعل الله تعالى ؟ وقد روى في صحيحه من حديث البخاري أبي هريرة { وأبي سعيد خيبر ، فجاءهم بتمر جنيب ، فقال : أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال : إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاث ، فقال : لا تفعل ، بع الجميع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا } وقال في الميزان مثل ذلك ، فأرشده إلى الحيلة على التخلص من الربا بتوسط العقد الآخر ، وهذا أصل في جواز العينة . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على
وهل الحيل إلا معاريض في الفعل على وزان المعاريض في القول ؟ وإذا كان في المعاريض مندوحة عن الكذب ففي معاريض الفعل مندوحة عن المحرمات وتخلص من المضايق .
{ وقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه ، فقال المشركون : ممن أنتم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن من ماء فنظر بعضهم إلى بعض ، فقالوا : أحياء اليمن كثير ، فلعلهم منهم ، وانصرفوا } .
{ } . وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : احملني ، فقال : ما عندي إلا ولد ناقة فقال : ما أصنع بولد الناقة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وهل يلد الإبل إلا النوق ؟
وقد { رأت امرأة عبد الله بن رواحة عبد الله على جارية له ، فذهبت وجاءت بسكين ، فصادفته وقد قضى حاجته ، فقالت : لو وجدتك على الحال التي كنت عليها لوجأتك ، فأنكر ، فقالت : فاقرأ إن كنت صادقا ، فقال :
شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا [ ص: 151 ] وأن العرش فوق الماء طاف
وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة كرام
ملائكة الإله مسومينا
وكان بعض السلف إذا أراد أن لا يطعم طعاما لرجل قال : أصبحت صائما ، يريد أنه أصبح فيما سلف صائما قبل ذلك اليوم ، وكان إذا اقتضاه بعض غرمائه وليس عنده ما يعطيه قال : أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله ، يريد بذلك يومي الدنيا والآخرة ، وسأل رجل عن محمد بن سيرين المروزي وهو في دار ، فكره الخروج إليه ، فوضع أحمد بن حنبل إصبعه في كفه ، فقال : ليس أحمد المروزي هاهنا ، وما يصنع المروزي هاهنا ؟ وحضر مجلسا ، فلما أراد النهوض منعوه ، فحلف أنه يعود ، ثم خرج وترك نعله كالناسي لها ، فلما خرج عاد وأخذها وانصرف . سفيان الثوري
وقد كان في هذا الباب فقه دقيق كما أعجب رجلا فرسه وأراد أخذها منه ، فقال له لشريح : إنها إذا أربضت لم تقم حتى تقام ، فقال الرجل : أف أف ، وإنما أراد شريح أن الله هو الذي يقيمها . وباع من رجل ناقة ، فقال له المشتري : كم تحمل ؟ فقال : احمل على الحائط ما شئت ، فقال : كم تحلب ؟ قال : احلب في أي إناء شئت ، فقال : كيف سيرها ؟ قال : الريح لا تلحق ، فلما قبضها المشتري لم يجد شيئا من ذلك ، فجاء إليه وقال : ما وجدت شيئا من ذلك ، فقال : ما كذبتك . شريح
قالوا : ومن المعلوم أن الشارع جعل العقود وسائل وطرقا إلى إسقاط الحدود والمأثم ، ولهذا لو لزمه الحد ، فإذا عقد عليها عقد النكاح ثم وطئها لم يلزمه الحد ، وكان العقد حيلة على إسقاط الحد ، بل قد جعل الله تعالى الأكل والشرب واللباس حيلة على دفع أذى الجوع والعطش والبرد ، والاكتفاء حيلة إلى دفع الصائل من الحيوان وغيره ، وعقد التبايع حيلة على حصول الانتفاع بملك الغير ، وسائر العقود حيلة على التوصل إلى ما لا يباح إلا بها ، وشرع الرهن حيلة على رجوع صاحب الدين في ماله من عين الرهن إذا أفلس الراهن أو تعذر الاستيفاء منه . وطئ الإنسان امرأة أجنبية من غير عقد ولا شبهة
وقد روى سلمة بن صالح عن يزيد الواسطي عن عن عبد الكريم قال { عبد الله بن بريدة : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعظم آية في كتاب الله ، فقال : لا أخرج من المسجد حتى أخبرك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه ، فلما أخرج إحدى رجليه أخبره بالآية قبل أن يخرج [ ص: 152 ] رجله الأخرى } ، وقد بنى الخصاف كتابه في الحيل على هذا الحديث ، ووجه الاستدلال به أن من لم يكن حانثا ، فإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف ولا يأخذ هذا المتاع فليدع بعضه ويأخذ الباقي ولا يحنث ، وهذا أصل في بابه في التخلص من الأيمان . حلف أن لا يفعل شيئا فأراد التخلص من الحنث بفعل بعضه
وهذا السلف الطيب قد فتحوا لنا هذا الباب ، ونهجوا لنا هذا الطريق ، فروى عن قيس بن الربيع عن الأعمش في رجل أخذه رجل فقال : إن لي معك حقا ، فقال : لا ، فقال : احلف لي بالمشي إلى بيت الله ، فقال : يحلف له بالمشي إلى بيت الله ، ويعني به مسجد حيه ، وبهذا الإسناد أنه قال له رجل : إن فلانا أمرني أن آتي مكان كذا وكذا ، وأنا لا أقدر على ذلك المكان ، فكيف الحيلة ؟ قال : يقول والله ما أبصر إلا ما سددني غيري . إبراهيم
وذكر عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال : جعل يحلف حذيفة على أشياء بالله ما قالها ، وقد سمعناه يقولها ، فقلنا : يا لعثمان بن عفان أبا عبد الله ، سمعناك تحلف على أشياء ما قلتها ، وقد سمعناك قلتها ، فقال : إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله ، وذكر لعثمان عن قيس بن الربيع عن الأعمش أن رجلا قال له : إني أنال من رجل شيئا فيبلغه عني ، فكيف أعتذر له ؟ فقال له إبراهيم : قل والله إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء ، وكان إبراهيم يقول لأصحابه إذا خرجوا من عنده وهو مستخف من إبراهيم : إن سئلتم عني فاحلفوا بالله لا تدرون أين أنا ، ولا في أي موضع أنا ، واعنوا لا تدرون أين أنا من الحجاج البيت ، وفي أي موضع منه ، وأنتم صادقون . وقال عن مجاهد : ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم . ابن عباس
وقد ثبت في الصحيح من حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه - وكانت من المهاجرات الأول - { أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط } . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : رخص في الكذب في ثلاث : في الرجل يصلح بين الناس ، والرجل يكذب لامرأته ، والكذب في الحرب
وقال عن أبيه : حدثني معتمر بن سليمان التيمي نعيم بن أبي هند عن أن سويد بن غفلة كرم الله وجهه في الجنة لما قتل عليا الزنادقة نظر في الأرض ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، ثم قال : صدق الله ورسوله ، ثم قام فدخل بيته ، فأكثر الناس في ذلك ، فدخلت عليه فقلت : يا أمير المؤمنين أشيء عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء رأيته ؟ فقال : هل علي من بأس أن أنظر إلى السماء ؟ قلت : لا ، قال : فهل علي من بأس أن أنظر إلى الأرض ؟ قلت : [ ص: 153 ] لا ، قال فهل علي من بأس أن أقول صدق الله ورسوله ؟ قلت : لا ، قال : فإني رجل مكائد .
وقال : ثنا حجاج بن منهال أبو عوانة عن أبي مسكين قال : كنت عند وامرأته تعاتبه في جاريته وبيدها مروحة ، فقال : أشهدكم بأنها لها ، فلما خرجنا قال : علام شهدتم ؟ قلنا : أشهدتنا أنك جعلت الجارية لها ، قال : أما رأيتموني أشير إلى المروحة ؟ . إبراهيم
وقال محمد بن الحسن عن عمرو بن دينار عن الشعبي ; لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز ، وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ، ويخرج به إلى الحلال ، فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به ، وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يبطله ، أو يحتال في باطل حتى يوهم أنه حق ، أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة ، وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك .
قالوا : وقد قال الله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } قال غير واحد من المفسرين : مخرجا مما ضاق على الناس ، ولا ريب أن هذه الحيل مخارج مما ضاق على الناس ، ألا ترى أن الحالف يضيق عليه إلزام ما حلف عليه ، فيكون له بالحيلة مخرج منه ، وكذلك الرجل تشتد به الضرورة إلى نفقة ولا يجد من يقرضه فيكون له من هذا الضيق مخرج بالعينة والتورق ونحوهما ، فلو لم يفعل ذلك لهلك ولهلكت عياله ، والله تعالى لا يشرع ذلك ، ولا يضيق عليه شرعه الذي وسع جميع خلقه ; فقد دار أمره بين ثلاثة لا بد له من واحد منها : إما إضاعة نفسه وعياله ، وإما الربا صريحا ، وإما المخرج من هذا الضيق بهذه الحيلة ، فأوجدونا أمرا رابعا نصير إليه .
وكذلك الرجل ينزعه الشيطان فيقع به الطلاق فيضيق عليه جدا مفارقة امرأته وأولاده وخراب بيته ، فكيف ينكر في حكمة الله ورحمته أن نتحيل له بحيلة تخرجه من هذا الإصر والغل ؟ وهل الساعي في ذلك إلا مأجور غير مأزور كما قاله إمام الظاهرية في وقته أبو محمد بن حزم وبعض أصحاب وأبو ثور ، وحملوا أحاديث التحريم على ما إذا شرط في صلب العقد أنه نكاح تحليل ؟ قالوا : وقد روى أبي حنيفة عن عبد الرزاق عن هشام بن حسان قال : أرسلت امرأة إلى رجل ، فزوجته نفسها ليحلها لزوجها ، فأمره محمد بن سيرين رضي الله عنه أن يقيم معها ولا يطلقها ، وأوعده أن يعاقبه إن طلقها ، فهذا أمير المؤمنين قد صحح نكاحه ، ولم يأمره باستئنافه ، وهو حجة في صحة نكاح المحلل والنكاح بلا ولي . [ ص: 154 ] وذكر عمر بن الخطاب عن عبد الرزاق عن معمر عن أبيه أنه كان لا يرى بأسا بالتحليل ، إذا لم يعلم أحد الزوجين . هشام بن عروة
قال : وهو قول ابن حزم سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد . وصح عن فيمن نكح امرأة محللا ثم رغب فيها فأمسكها ، قال : لا بأس بذلك . عطاء
وقال الشعبي : لا بأس بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج .
وقال : إن تزوجها ثم فارقها لترجع إلى زوجها ولم يعلم المطلق ولا هي بذلك وإنما كان ذلك إحسانا منه فلا بأس أن ترجع إلى الأول ، فإن بين الثاني ذلك للأول بعد دخوله بها لم يضره . وقال الليث بن سعد الشافعي : المحلل الذي يفسد نكاحه هو الذي يعقد عليه في نفس عقد النكاح أنه إنما يتزوجها ثم يطلقها ، فأما من لم يشترط ذلك في عقد النكاح فعقده صحيح لا داخلة فيه ، سواء شرط ذلك عليه قبل العقد أو لم يشرط ، نوى ذلك أو لم ينوه ، قال وأبو ثور : وهو مأجور . أبو ثور
وروى عن بشر بن الوليد وعن أبي يوسف [ مثل هذا سواء . وروى أيضا أبي حنيفة محمد عن وأبو يوسف ] : إذا نوى الثاني وهي تحليلها للأول لم تحل له بذلك . وروى أبي حنيفة عن الحسن بن زياد زفر : أنه إن اشترط عليه في نفس العقد أنه إنما تزوجها ليحلها للأول فإنه نكاح صحيح ، ويبطل الشرط ، وله أن يقيم معها ; فهذه ثلاث روايات عن وأبي حنيفة . أبي حنيفة
قالوا : وقد قال الله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وهذا زوج ، وقد عقد بمهر وولي ورضاها وخلوها من الموانع الشرعية ، وهو راغب في ردها إلى الأول ; فيدخل في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ابن عباس } وهذا نكاح رغبة في تحليلها للمسلم كما أمر الله تعالى بقوله : { لا نكاح إلا نكاح رغبة حتى تنكح زوجا غيره } والنبي صلى الله عليه وسلم إنما شرط في عودها إلى الأول مجرد ذوق العسيلة بينهما ، وغيا الحل بذلك فقال : { } فإذا تذاوقا العسيلة حلت له بالنص . [ ص: 155 ] لا ، حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها
قالوا : وأما فنعم هو باطل ، ولكن ما هو نكاح الدلسة ؟ فلعله أراد به أن تدلس له المرأة بغيرها ، أو تدلس له أنها انقضت عدتها ولم تنقض لتستعجل عودها إلى الأول . نكاح الدلسة
وأما لعنه للمحلل فلا ريب أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد كل محلل ومحلل له ; فإن الولي محلل لما كان حراما قبل العقد ، والحاكم المزوج محلل بهذا الاعتبار ، والبائع لأمته محلل للمشتري وطأها ، فإن قلنا : " العام إذا خص صار مجملا " بطل الاحتجاج بالحديث ، وإن قلنا : " هو حجة فيما عدا محل التخصيص " فذلك مشروط ببيان المراد منه ، ولسنا ندري المحلل المراد من هذا النص ، أهو الذي نوى التحليل أو شرطه قبل العقد أو شرطه في صلب العقد ؟ أو الذي أحل ما حرمه الله ورسوله ؟ ووجدنا كل من تزوج مطلقة ثلاثا فإنه محلل ، ولو لم يشترط التحليل ولم ينوه ; فإن الحل حصل بوطئه وعقده ؟ ومعلوم قطعا أنه لم يدخل في النص ، فعلم أن النص إنما أراد به من أحل الحرام بفعله أو عقده ، ونحن وكل مسلم لا نشك في أنه أهل للعنة الله ، أما من قصد الإحسان إلى أخيه المسلم ورغب في جمع شمله بزوجته ، ولم شعثه وشعث أولاده وعياله ; فهو محسن ، وما على المحسنين من سبيل ، فضلا عن أن تلحقهم لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم قواعد الفقه وأدلته لا تحرم مثل ذلك ; فإن هذه العقود التي لم يشترط المحرم في صلبها عقود صدرت من أهلها في محلها مقرونة بشروطها ، فيجب الحكم بصحتها ; لأن السبب هو الإيجاب والقبول وهما تامان ، وأهلية العاقد لا نزاع فيها ، ومحلية العقد قابلة ، فلم يبق إلا القصد المقرون بالعقد ، ولا تأثير له في بطلان الأسباب الظاهرة ، لوجوه ; أحدها : أن المحتال مثلا إنما قصد الربح الذي وضعت له التجارة ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فإذا حصل له الربح حصل له مقصوده ، وقد سلك الطريق المفضية إليه في ظاهر الشرع ، والمحلل غايته أنه قصد الطلاق ونواه إذا وطئ المرأة ، وهو مما ملكه الشارع إياه ، فهو كما لو نوى المشتري إخراج المبيع عن ملكه إذا اشتراه ، وسر ذلك أن السبب مقتض لتأبد الملك ، والنية لا تغير موجب السبب حتى يقال : إن النية توجب تأقيت العقد ، وليست هي منافية لموجب العقد ، فإن له أن يطلق . ولو لم يقدح في صحة البيع ، فنية الطلاق أولى ، وأيضا فالقصد لا يقدح في اقتضاء السبب لحكمه ; لأنه خارج عما يتم به العقد ، ولهذا لو نوى بعقد الشراء إتلاف المبيع وإحراقه أو إغراقه فكل ذلك لا أثر له في صحة البيع من جهة أنه منقطع عن السبب ; فلا يخرج السبب عن اقتضاء حكمه . اشترى عصيرا ومن نيته أن يتخذه [ ص: 156 ] خمرا أو جارية ومن نيته أن يكرهها على البغاء أو يجعلها مغنية أو سلاحا ومن نيته أن يقتل به معصوما
وقد ظهر بهذا الفرق بين هذا القصد وبين الإكراه ; فإن الرضا شرط في صحة العقد ، والإكراه ينافي الرضا ، وظهر أيضا الفرق بينه وبين الشرط المقارن ; فإن الشرط المقارن يقدح في مقصود العقد ; فغاية الأمر أن العاقد قصد محرما ، لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك ، كما لو تزوجها ليضار بها امرأة له أخرى ، ومما يؤيد ما ذكرناه أن النية إنما تعمل في اللفظ المحتمل للمنوي وغيره ، مثل الكنايات ، ومثل أن يقول : اشتريت كذا ; فإنه يحتمل أن يشتريه لنفسه ولموكله ، فإذا نوى أحدهما صح ، فإذا كان السبب ظاهرا متعينا لمسببه لم يكن للنية الباطنة أثر في تغيير حكمه .
يوضحه أن النية لا تؤثر في اقتضاء الأسباب الحسية والعقلية المستلزمة لمسبباتها ولا تؤثر النية في تغييرها ، يوضحه أن النية إما أن تكون بمنزلة الشرط أو لا تكون ، فإن كانت بمنزلة الشرط لزم أنه إذا نوى أن لا يبيع ما اشتراه ولا يهبه ولا يتصرف فيه ، أو نوى أن يخرجه عن ملكه ، أو نوى أن لا يطلق الزوجة أو يبيت عندها كل ليلة أو لا يسافر عنها ، بمنزلة أن يشترط ذلك في العقد ، وهو خلاف الإجماع ، وإن لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير له حينئذ .
وأيضا فنحن لنا ظواهر الأمور ، وإلى الله سرائرها وبواطنها ; ولهذا يقول الرسل لربهم تعالى يوم القيامة إذا سألهم : { ماذا أجبتم } فيقولون : { لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } كان لنا ظواهرهم ، وأما ما انطوت عليه ضمائرهم وقلوبهم فأنت العالم به .
قالوا : فقد ظهر عذرنا ، وقامت حجتنا ، فتبين أنا لم نخرج فيما أصلناه - من اعتبار الظاهر ، وعدم الالتفات إلى القصود في العقود ، وإلغاء الشروط المتقدمة الخالي عنها العقد ، والتحيل على التخلص من مضايق الأيمان وما حرمه الله ورسوله من الربا وغيره - عن كتاب ربنا وسنة نبينا وأقوال السلف الطيب .
ولنا بهذه الأصول رهن عند كل طائفة من الطوائف المنكرة علينا .