[ ] دليل تحريم الحيل
وتلخيص هذا أن الحيل المحرمة مخادعة لله ، ومخادعة الله حرام : أما المقدمة الأولى فإن الصحابة والتابعين - وهم أعلم الأمة بكلام الله ورسوله ومعانيه - سموا ذلك خداعا ، وأما الثانية فإن الله ذم أهل الخداع ، وأخبر أن خداعهم إنما هو لأنفسهم ، وأن في قلوبهم مرضا ، وأنه تعالى خادعهم ، فكل هذا عقوبة لهم ، ومدار الخداع على أصلين ; أحدهما : إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له ، الثاني : إظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له ، وهذا منطبق على الحيل المحرمة ، وقد عاقب الله تعالى المتحيلين على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بجد جنتهم عليهم وإهلاك ثمارهم ، فكيف بالمتحيل على إسقاط فرائض الله وحقوق خلقه ؟ ولعن أصحاب السبت ومسخهم قردة وخنازير على احتيالهم على فعل ما حرمه عليهم .
قال في قوله تعالى : { الحسن البصري ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } قال : رموا الحيتان في السبت ، ثم أرجئوها في الماء ، فاستخرجوها بعد ذلك ، فطبخوها فأكلوها ، والله أوخم أكلة أكلة أسرعت في الدنيا عقوبة وأسرعت عذابا في الآخرة ، والله ما كانت لحوم الحيتان تلك بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين ، إلا أنه عجل لهؤلاء وأخر لهؤلاء .
وقوله : " رموها في السبت " يعني احتالوا على وقوعها في الماء يوم السبت كما بين غيره أنهم حفروا لها حياضا ثم فتحوها عشية الجمعة ، ولم يرد أنهم باشروا رميها يوم [ ص: 129 ] السبت ; إذ لو اجترءوا على ذلك لاستخرجوها ، قال شيخنا : وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وبموسى ، وإنما فعلوا ذلك تأويلا واحتيالا ظاهره ظاهر الاتقاء وحقيقته حقيقة الاعتداء ، ولهذا والله أعلم - مسخوا قردة لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان ، وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه ، وهو مخالف له في الحد والحقيقة ، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مسخهم الله قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة ، جزاء وفاقا .
ويقوي ذلك أن بني إسرائيل أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل ، وهو أعظم من أكل الصيد في يوم بعينه ، ولم يعاقب أولئك بالمسخ كما عوقب به من استحل الحرام بالحيلة ; لأن هؤلاء لما كانوا أعظم جرما كانت عقوبتهم أعظم ، فإنهم بمنزلة المنافقين يفعلون ما يفعلون ولا يعترفون بالذنب بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم ، بخلاف من أكل الربا وأموال الناس بالباطل والصيد المحرم عالما بتحريمه فإنه يقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم وخشيته لله واستغفاره وتوبته يوما ما ، واعترافه بأنه مذنب عاص ، وانكسار قلبه من ذل المعصية ، وازدراؤه على نفسه ، ورجاؤه لمغفرة ربه له ، وعد نفسه من المذنبين الخاطئين ، وهذا كله إيمان يفضي بصاحبه إلى خير ، بخلاف الماكر المخادع المحتال على قلب دين الله ، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ارتكاب الحيل فقال : { لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل } وقد أخبر الله تعالى أنه جعل هذه القرية أو هذه الفعلة التي فعلها بأهلها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين .
فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال ، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكرا وخديعة من الأقوال والأفعال ، وأن يعلم أن لله يوما تكع فيه الرجال ، وتنسف فيه الجبال ، وتترادف فيه الأهوال ، وتشهد فيه الجوارح والأوصال ، وتبلى فيه السرائر ، وتظهر فيه الضمائر ، ويصير الباطل فيه ظاهرا ، والسر علانية ، والمستور مكشوفا ، والمجهول معروفا ، ويحصل ويبدو ما في الصدور ، كما يبعثر ويخرج ما في القبور ، وتجري أحكام الرب تعالى هنالك على القصود والنيات ، كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات ، يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من النصيحة لله ورسوله وكتابه وما فيها من البر والصدق والإخلاص للكبير المتعال ، وتسود وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والغش والكذب والمكر والاحتيال ، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون ، وبدينهم كانوا يلعبون ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون . [ ص: 130 ]
[ الأعمال تابعة لمقاصد عاملها ]
وقد فصل قوله : { } الأمر في هذه إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لامرئ ما نوى . الحيل وأنواعها
فأخبر أن الأعمال تابعة لمقاصدها ونياتها ، وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه لا ما أعلنه وأظهره ، وهذا نص في أن من نوى التحليل كان محللا ، ومن نوى الربا بعقد التبايع كان رابيا ، ومن نوى المكر والخداع كان ماكرا مخادعا .
ويكفي هذا الحديث وحده في ، ولهذا صدر به حافظ الأمة إبطال الحيل إبطال الحيل ، والنبي صلى الله عليه وسلم أبطل ظاهر هجرة مهاجر محمد بن إسماعيل البخاري أم قيس بما أبطنه ونواه من إرادة أم قيس ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { } . البيعان بالخيار حتى يتفرقا ، إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله
" فاستدل به الإمام وقال : فيه إبطال الحيل ، وقد أشكل هذا على كثير من الفقهاء بفعل أحمد ; فإنه كان إذا أراد أن يلزم البيع مشى خطوات ، ولا إشكال بحمد الله في الحديث ، وهو من أظهر الأدلة على بطلان التحيل لإسقاط حق من له حق ; فإن الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أثبت خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين ، وليحصل تمام الرضى الذي شرطه تعالى فيه ; فإن العقد قد يقع بغتة من غير ترو ولا نظر في القيمة ، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريما يتروى فيه المتبايعان ، ويعيدان النظر ، ويستدرك كل واحد منهما عيبا كان خفيا . ابن عمر
فلا أحسن من هذا الحكم ، ولا أرفق لمصلحة الخلق ; فلو مكن أحد المتعاقدين الغابن للآخر من النهوض في الحال والمبادرة إلى التفرق لفاتت مصلحة الآخر ، ومقصود الخيار بالنسبة إليه ، وهب أنك أنت اخترت إمضاء البيع فصاحبك لم يتسع له وقت ينظر فيه ويتروى ، فنهوضك حيلة على إسقاط حقه من الخيار ، فلا يجوز حتى يخيره ; فلو فارق المجلس لغير هذه الحاجة أو صلاة أو غير ذلك ولم يقصد إبطال حق الآخر من الخيار لم يدخل في هذا التحريم ، ولا يقال : هو ذريعة إلى إسقاط حق الآخر من الخيار ; لأن باب سد الذرائع متى فاتت به مصلحة راجحة أو تضمن مفسدة راجحة لم يلتفت إليه .
فلو منع العاقد من التفرق حتى يقوم الآخر لكان في ذلك إضرار به ومفسدة راجحة ; فالذي جاءت به الشريعة في ذلك أكمل شيء وأوفقه للمصلحة والحكمة ولله الحمد . [ ص: 131 ] وتأمل قوله : { لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل } .
أي أسهلها وأقربها ، وإنما ذكر أدنى الحيل لأن المطلق ثلاثا مثلا من أسهل الحيل عليه أن يعطي بعض التيوس المستعارة عشرة دراهم ويستعيره لينزو على امرأته نزوة وقد طيبها له ، بخلاف الطريق الشرعي التي هي نكاح الرغبة فإنها يصعب معها عودها إلى الأول جدا ، وكذلك من أراد أن يقرض ألفا بألف وخمسمائة ، فمن أدنى الحيل أن يعطيه ألفا إلا درهما باسم القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة ، ولو أراد ذلك بالطريق الشرعي لتعذر عليه ، وكذلك حيلة اليهود بنصب الشباك يوم الجمعة وأخذ ما وقع فيها يوم السبت من أسهل الحيل .
وكذلك إذابتهم الشحم وبيعه وأكل ثمنه .
وقال الإمام في مسنده : ثنا أحمد أسود بن عامر ثنا أبو بكر عن عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ابن عمر } . إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ; أنزل الله عليهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم
ورواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري عن إسحاق بن عبد الرحمن الخراساني أن حدثه أن عطاء الخراساني حدثه عن نافعا . ابن عمر
قال شيخنا رضي الله عنه : وهذان إسنادان حسنان ; أحدهما يشد الآخر ويقويه ، فأما رجال الأول فأئمة مشاهير ، ولكن يخاف أن لا يكون سمعه من الأعمش أو أن عطاء لم يسمعه من عطاء ; فالإسناد الثاني يبين أن للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر ; فإن ابن عمر ثقة مشهور ، عطاء الخراساني كذلك وأفضل . وأما وحيوة بن شريح إسحاق بن عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة بن شريح والليث بن سعد ويحيى بن أيوب وغيرهم .
قال : فقد روينا من طريق ثالث من حديث السري بن سهل الجنيد سابوري بإسناد مشهور إليه : ثنا عبد الله بن رشيد ثنا عبد الرحمن عن عن ليث عن عطاء قال : لقد أتى علينا زمان وما منا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم . ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ابن عمر } إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، وتركوا الجهاد ، واتبعوا أذناب البقر ; أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه عنهم حتى يتوبوا ويراجعوا دينهم
وهذا يبين أن للحديث أصلا عن ، وروى عطاء محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطين في كتاب البيوع له عن أنه سئل عن العينة ، فقال : إن الله لا يخدع ، هذا مما حرم الله ورسوله . أنس
وروى أيضا في كتابه عن قال : اتقوا هذه العينة ، لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة ، وفي رواية أن رجلا باع من رجل حريرة بمائة ، ثم اشتراها بخمسين ، فسأل ابن عباس عن ذلك ، فقال : دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما [ ص: 132 ] حريرة . ابن عباس
وسئل عن العينة - يعني بيع الحريرة - فقال : إن الله لا يخدع ، هذا مما حرم الله ورسوله ، وروى ابن عباس بإسناده إلى ابن بطة الأوزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع } .
يعني العينة ، وهذا المرسل صالح للاعتضاد به والاستشهاد ، وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد .
قال الإمام : حدثنا أحمد ثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن امرأته : " أنها دخلت على أبي إسحاق السبيعي عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى فقالت لها أم ولد زيد : إني بعت من غلاما بثمان مائة نسيئة ، واشتريته بست مائة نقدا ، فقالت : أبلغي زيد أن قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن يتوب ، بئسما شريت ، وبئسما اشتريت " . زيدا
رواه الإمام وعمل به ، وهذا حديث فيه أحمد ، وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به ، فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه . شعبة
وأيضا فهذه امرأة وهو أحد أئمة الإسلام الكبار وهو أعلم بامرأته وبعدالتها ، فلم يكن ليروي عنها سنة يحرم بها على الأمة وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة ، بل يحابيها في دين الله ، هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق ، وأيضا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على أبي إسحاق عائشة وسمعت منها وروت عنها ، ولا يعرف أحد قدح فيها بكلمة ، وأيضا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرا في التابعين بحيث ترد به روايتهم . وأيضا فإن هذه المرأة معروفة ، واسمها العالية ، وهي جدة ، كما رواه إسرائيل حرب من حديث : حدثني إسرائيل عن جدته أبو إسحاق العالية يعني جدة إسرائيل ; فإنه ، إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق والعالية امرأة أبي إسحاق وجدة يونس ، وقد حملا عنها هذه السنة - أعلم بجدته وإسرائيل أعلم بامرأته . وأيضا فلم يعرف أحد قط من التابعين أنكر على وأبو إسحاق العالية هذا الحديث ولا قدح فيها من أجله ، ويستحيل في العادة أن تروي حديثا باطلا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر وأيضا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الربا ; فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل . [ ص: 133 ] وأيضا فإن في الحديث قصة ، وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ .
قال : حدثتني أبو إسحاق امرأتي العالية ، قالت : دخلت على عائشة في نسوة ، فقالت : ما حاجتكن ؟ فكان أول من سألها أم محبة ، فقالت : يا أم المؤمنين هل تعرفين ؟ قالت : نعم ، قالت : فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى زيد بن أرقم العطاء ، وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدا ، فأقبلت عليها وهي غضبى ، فقالت : بئسما شريت ، وبئسما اشتريت ، أبلغي أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب ، وأفحمت صاحبتنا فلم تكلم طويلا ، ثم إنها سهل عليها فقالت : يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ؟ فتلت عليها : { زيدا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف }
وأيضا فهذا الحديث إذا انضم إلى تلك الأحاديث والآثار أفادت بمجموعها الظن الغالب إن لم تفد اليقين .
وأيضا فإن آثار الصحابة كما تقدم موافقة لهذا الحديث ، مشتقة منه ، مفسرة له .
وأيضا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله ، وبالغت في تحريمه ، وآذنت صاحبه بحرب من الله ورسوله ، أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة ؟ ولولا أن عند أم المؤمنين رضي الله عنها علما من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تستريب فيه ولا تشك بتحريم مسألة العينة لما أقدمت على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها ، لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة ، واستحلال الربا ردة ، ولكن عذر أنه لم يعلم أن هذا محرم ، كما عذر زيد بإباحته بيع الدرهم بالدرهمين ، وإن لم يكن قصدها هذا ، بل قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد ويصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا ، ولو كان هذا اجتهادا منها لم تمنع ابن عباس منه ، ولم تحكم ببطلان جهاده ، ولم تدعه إلى التوبة ; فإن الاجتهاد لا يحرم الاجتهاد ، ولا يحكم ببطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره ، والصحابة - ولا سيما أم المؤمنين - أعلم بالله ورسوله ، وأفقه في دينه من ذلك . زيدا
وأيضا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس أفتوا بتحريم مسألة العينة ، وغلظوا فيها هذا التغليظ في أوقات ووقائع مختلفة ; فلم يجئ عن واحد من الصحابة ولا التابعين الرخصة في ذلك ، فيكون إجماعا . [ ص: 134 ] فإن قيل : وأنس قد خالف فزيد بن أرقم عائشة ومن ذكرتم ، فغاية الأمر أنها مسألة ذات قولين للصحابة ، وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد .
قيل : لم يقل قط إن هذا حلال ، ولا أفتى بها يوما ما ، ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله ; إذ لعله فعله ناسيا أو ذاهلا أو غير متأمل ولا ناظر أو متأولا أو ذنبا يستغفر الله منه ويتوب أو يصر عليه وله حسنات تقاومه ، فلا يؤثر شيئا . زيد
قال بعض السلف : العلم علم الرواية ، يعني أن يقول : رأيت فلانا يفعل كذا وكذا ; إذ لعله قد فعله ساهيا ، وقال : لا تنظر إلى عمل الفقيه ، ولكن سله يصدقك ، ولم يذكر عن إياس بن معاوية أنه أقام على هذه المسألة بعد إنكار زيد عائشة ، وكثيرا ما يفعل الرجل الكبير الشيء مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة فإذا نبه انتبه ، وإذا كان الفعل محتملا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن يقدم على الحكم ، ولم يجز أن يقال : مذهب جواز العينة ، لا سيما وأم ولده قد دخلت على زيد بن أرقم عائشة تستفتيها فأفتتها بأخذ رأس مالها ، وهذا كله يدل على أنهما لم يكونا جازمين بصحة العقد وجوازه ، وأنه مما أباحه الله ورسوله .
وأيضا فبيع العينة إنما يقع غالبا من مضطر إليها ، وإلا فالمستغني عنها لا يشغل ذمته بألف وخمسمائة في مقابلة ألف بلا ضرورة وحاجة تدعو إلى ذلك ، وقد روى أبو داود من حديث : { علي } . نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وبيع الغرر ، وبيع الثمرة قبل أن تدرك
وفي مسند الإمام عنه قال : " سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ، ولم يؤثر بذلك قال الله تعالى : { أحمد ولا تنسوا الفضل بينكم } وينهر الأشرار ، ويستذل الأخيار ، ويبايع المضطرون ، وقد { } . نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وعن بيع الغرر ، وبيع الثمر قبل أن يطعم
وله شاهد من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه حذيفة سعيد عن عن هشيم كوثر بن حكيم عن مكحول : بلغني عن أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حذيفة إن بعد زمانكم هذا زمانا عضوضا ، يعض الموسر على ما في يديه ، ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } وينهد شرار خلق الله ، يبايعون كل مضطر ، ألا أن بيع المضطر حرام ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه ، إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه } وهذا من دلائل النبوة ، فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليه الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما أحب ، ، والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون ، وأخفها التورق ، وقد كرهه وهذا المضطر إن أعاد السلعة [ ص: 135 ] إلى بائعها فهي العينة ، وإن باعها لغيره فهو التورق ، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا ، وقال : هو أخية الربا وعن عمر بن عبد العزيز فيه روايتان ، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر ، وهذا من فقهه رضي الله عنه ، قال : فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر ، وكان أحمد شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق ، وروجع فيها مرارا وأنا حاضر ، فلم يرخص فيها ، وقال : المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها ; فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه قد تقدم الاستدلال على تحريم العينة بقوله صلى الله عليه وسلم : " { } وبقوله : { لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع } وأن ذلك لا يمكن وقوعه إلا على العينة .
من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا