فصل ولا تعارض بحمد الله بين هذه الآثار ، عن السادة الأخيار ، بل كلها حق ، وكل منها له وجه ، وهذا إما يتبين بالفرق بين الرأي الباطل الذي ليس من الدين والرأي الحق الذي لا مندوحة عنه لأحد من المجتهدين فنقول وبالله المستعان :
[
nindex.php?page=treesubj&link=28329معنى الرأي ]
الرأي في الأصل مصدر " رأى الشيء يراه رأيا " ثم غلب استعماله على المرئي نفسه ، من باب استعمال المصدر في المفعول ، كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه هوى ، ثم استعمل في الشيء الذي يهوى ; فيقال : هذا هوى فلان ، والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها فتقول : رأى كذا في النوم رؤيا ، ورآه في اليقظة رؤية ، ورأى كذا - لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين - رأيا ، ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات ; فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به أنه رأيه ، ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الأمارات إنه رأي ، وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها .
[ الرأي على ثلاثة أنواع ]
وإذا عرف هذا فالرأي ثلاثة أقسام : رأي باطل بلا ريب ، ورأي صحيح ، ورأي هو موضع الاشتباه ، والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف ، فاستعملوا
nindex.php?page=treesubj&link=28331الرأي الصحيح ، وعملوا به وأفتوا به ، وسوغوا القول به ، وذموا الباطل ، ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به ، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله .
والقسم الثالث : سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد ، ولم يلزموا أحدا العمل به ، ولم يحرموا مخالفته ، ولا جعلوا مخالفه مخالفا للدين ، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده ; فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : سألت
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عن القياس ، فقال لي : عند الضرورة ، وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة : لم يفرطوا فيه ويفرعوه ويولدوه ويوسعوه كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار ، وكان أسهل عليهم من حفظها ، كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه وتعسر
[ ص: 54 ] حفظه ، فلم يتعدوا في استعماله قدر الضرورة ، ولم يبغوا العدول إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار ; كما قال تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } فالباغي : الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكى ، والعادي : الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها .
فَصْلٌ وَلَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ ، عَنْ السَّادَةِ الْأَخْيَارِ ، بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ ، وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ وَجْهٌ ، وَهَذَا إمَّا يَتَبَيَّنُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرَّأْيِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَالرَّأْيِ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ الْمُسْتَعَانُ :
[
nindex.php?page=treesubj&link=28329مَعْنَى الرَّأْيِ ]
الرَّأْيُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ " رَأَى الشَّيْءَ يَرَاهُ رَأْيًا " ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَرْئِيِّ نَفْسِهِ ، مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ فِي الْمَفْعُولِ ، كَالْهَوَى فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ هَوِيَهُ يَهْوَاهُ هَوًى ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُهْوَى ; فَيُقَالُ : هَذَا هَوَى فُلَانٌ ، وَالْعَرَبُ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَصَادِرِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ مَحَالِّهَا فَتَقُولُ : رَأَى كَذَا فِي النَّوْمِ رُؤْيَا ، وَرَآهُ فِي الْيَقِظَةِ رُؤْيَةً ، وَرَأَى كَذَا - لِمَا يُعْلَمُ بِالْقَلْبِ وَلَا يُرَى بِالْعَيْنِ - رَأْيًا ، وَلَكِنَّهُمْ خَصُّوهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَلْبُ بَعْدَ فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ وَطَلَبٍ لِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الصَّوَابِ مِمَّا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ ; فَلَا يُقَالُ لِمَنْ رَأَى بِقَلْبِهِ أَمْرًا غَائِبًا عَنْهُ مِمَّا يَحُسُّ بِهِ أَنَّهُ رَأْيُهُ ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا لِلْأَمْرِ الْمَعْقُولِ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْعُقُولُ وَلَا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ إنَّهُ رَأْيٌ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ كَدَقَائِقِ الْحِسَابِ وَنَحْوِهَا .
[ الرَّأْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ ]
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالرَّأْيُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : رَأْيٌ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ ، وَرَأْيٌ صَحِيحٌ ، وَرَأْيٌ هُوَ مَوْضِعُ الِاشْتِبَاهِ ، وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ قَدْ أَشَارَ إلَيْهَا السَّلَفُ ، فَاسْتَعْمَلُوا
nindex.php?page=treesubj&link=28331الرَّأْيَ الصَّحِيحَ ، وَعَمِلُوا بِهِ وَأَفْتَوْا بِهِ ، وَسَوَّغُوا الْقَوْلَ بِهِ ، وَذَمُّوا الْبَاطِلَ ، وَمَنَعُوا مِنْ الْعَمَلِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ بِهِ ، وَأَطْلَقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : سَوَّغُوا الْعَمَلَ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ بِهِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ بُدٌّ ، وَلَمْ يُلْزِمُوا أَحَدًا الْعَمَلَ بِهِ ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا مُخَالَفَتَهُ ، وَلَا جَعَلُوا مُخَالِفَهُ مُخَالِفًا لِلدِّينِ ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُمْ خَيَّرُوا بَيْنَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ ; فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا أُبِيحَ لِلْمُضْطَرِّ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَدُ : سَأَلَتْ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيَّ عَنْ الْقِيَاسِ ، فَقَالَ لِي : عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِهَذَا النَّوْعِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ : لَمْ يُفَرِّطُوا فِيهِ وَيُفَرِّعُوهُ وَيُوَلِّدُوهُ وَيُوَسِّعُوهُ كَمَا صَنَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ بِحَيْثُ اعْتَاضُوا بِهِ عَنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ ، وَكَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِفْظِهَا ، كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَضْبِطُ قَوَاعِدَ الْإِفْتَاءِ لِصُعُوبَةِ النَّقْلِ عَلَيْهِ وَتَعَسُّرِ
[ ص: 54 ] حِفْظِهِ ، فَلَمْ يَتَعَدَّوْا فِي اسْتِعْمَالِهِ قَدْرَ الضَّرُورَةِ ، وَلَمْ يَبْغُوا الْعُدُولَ إلَيْهِ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=173فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَالْبَاغِي : الَّذِي يَبْتَغِي الْمَيْتَةَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى الْمُذَكَّى ، وَالْعَادِي : الَّذِي يَتَعَدَّى قَدْرَ الْحَاجَةِ بِأَكْلِهَا .