فصل [ ] . الحكمة في التفرقة بين الضبع وغيره من ذي الناب
وأما قولهم : " وحرم كل ذي ناب من السباع وأباح الضبع ولها ناب " فلا ريب أنه حرم كل ذي ناب من السباع ، وإن كان بعض العلماء خفي عليه تحريمه فقال بمبلغ علمه : وأما الضبع فروي عنه فيها حديث صححه كثير من أهل العلم بالحديث فذهبوا إليه وجعلوه مخصصا لعموم أحاديث التحريم ، كما خصت العرايا لأحاديث المزابنة .
وطائفة لم تصححه وحرموا الضبع ; لأنها من جملة ذات الأنياب ، وقالوا : وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث ، علي ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، قالوا : وأما حديث الضبع فتفرد به [ ص: 89 ] وأبي ثعلبة الخشني عبد الرحمن بن أبي عمارة ، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب كلها تخالفه ، قالوا : ولفظ الحديث يحتمل معنيين : أحدهما أن يكون رفع الأكل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدا فقط ، ولا يلزم من كونها صيدا جواز أكلها ، فظن جابر أن كونها صيدا يدل على أكلها ، فأفتى به من قوله ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما سمعه من كونها صيدا . جابر
ونحن نذكر لفظ الحديث ليتبين ما ذكرناه ; فروى الترمذي في جامعه من حديث عن { عبيد بن عمير الليثي عبد الرحمن بن أبي عمارة قال : قلت : آكل الضبع ؟ قال : نعم ، قلت : أصيد هي ؟ قال : نعم ، قلت : أسمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم لجابر بن عبد الله } ، قال الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث ، فقال : هو صحيح ، وهذا يحتمل أن المرفوع منه هو كونها صيدا ، ويدل على ذلك أن قال : عن جرير بن حازم عن عبيد بن عمير ابن أبي عمارة عن { جابر } قالوا : وكذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الضبع فقال : هي صيد ، وفيها كبش إبراهيم الصائغ عن عن عطاء يرفعه : { جابر } قال الضبع صيد ، فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن ويؤكل : حديث صحيح ، وقوله : " ويؤكل " يحتمل الوقف والرفع ، وإذا احتمل ذلك لم تعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم . الحاكم
قالوا : ولو كان حديث صريحا في الإباحة لكان فردا ، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة ادعى جابر وغيره تواترها ، فلا يقدم حديث الطحاوي عليها . جابر
قالوا : والضبع من أخبث الحيوان وأشرهه ، وهو مغرى بأكل لحوم الناس ونبش قبور الأموات وإخراجهم وأكلهم ، ويأكل الجيف ، ويكسر بنابه .
قالوا : والله سبحانه قد حرم علينا الخبائث ، وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوات الأنياب ، والضبع لا يخرج عن هذا وهذا .
وقالوا : وغاية حديث يدل على أنها صيد يفدى في الإحرام ، ولا يلزم من ذلك أكلها ، وقد قال جابر : سئل بكر بن محمد عن أبو عبد الله يعني الإمام أحمد فقال : عليه الجزاء ، هي صيد ، ولكن لا يؤكل . محرم قتل ثعلبا
وقال جعفر بن محمد : سمعت سئل عن الثعلب ، فقال : الثعلب سبع ; فقد نص على أنه سبع وأنه يفدى في الإحرام ، ولما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشا ظن أبا عبد الله أنه يؤكل فأفتى به . جابر
والذين صححوا الحديث جعلوه مخصصا لعموم تحريم ذي الناب من غير فرق بينهما ، حتى قالوا : ويحرم إلا الضبع ، وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلا على مثل من كل وجه من غير فرقان بينهما . [ ص: 90 ] أكل كل ذي ناب من السباع
وبحمد الله إلى ساعتي هذه ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك ، أعني شريعة التنزيل لا شريعة التأويل .
ومن تأمل ألفاظه صلى الله عليه وسلم الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال ; فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين : أن يكون له ناب ، وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد .
وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين ، وهو كونها ذات ناب ، وليست من السباع العادية .
ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب ، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذى بها شبهها ; فإن الغاذي شبيه بالمغتذى ، ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم ، ولا تعد الضبع من السباع لغة ولا عرفا ، والله أعلم .