الفصل الثاني : [ ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس ]
في وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد : إما أن يكون القياس فاسدا ، أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع . بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس
وسألت شيخنا - قدس الله روحه - عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم " هذا خلاف القياس " لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم ، وربما كان مجمعا عليه ، كقولهم : طهارة الماء إذا وقعت فيه نجاسة [ على ] خلاف القياس ، وتطهير النجاسة على خلاف القياس ، والوضوء من لحوم الإبل ، والفطر بالحجامة ، والسلم ، والإجارة ، والحوالة ، والكتابة ، والمضاربة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والقرض ، وصحة صوم الآكل الناسي ، والمضي في الحج الفاسد ، كل ذلك على خلاف القياس ، فهل ذلك صواب أم لا ؟ فقال : ليس في الشريعة ما يخالف القياس ، وأنا أذكر ما حصلته من جوابه بخطه ولفظه ، وما فتح الله - سبحانه - لي بيمن إرشاده ، وبركة تعليمه ، وحسن بيانه وتفهيمه [ ص: 290 ]
[ لفظ القياس مجمل ]
أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل ، يدخل فيه القياس الصحيح والفاسد ، والصحيح هو الذي وردت به الشريعة ، وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ، فالأول قياس الطرد ، والثاني قياس العكس ، وهو من العدل الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ، ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط ، وكذلك القياس بإلغاء الفارق ، وهو : أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع ، فمثل هذا القياس أيضا لا تأتي الشريعة بخلافه ، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره ، لكن الوصف الذي اختص به ذلك النوع قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر ، وليس من شرط القياس الصحيح أن يعلم صحته كل أحد .
فمن رأى شيئا من الشريعة مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ، ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر ، وحيث علمنا أن النص ورد بخلاف قياس علمنا قطعا أنه قياس فاسد ، بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم ، فليس في الشريعة ما يخالف قياسا صحيحا ، ولكن يخالف القياس الفاسد ، وإن كان بعض الناس لا يعلم فساده ، ونحن نبين ذلك فيما ذكر في السؤال .
[ شبهة من ظن خلاف القياس وردها ]
فالذين قالوا ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة ; لأنها عمل بعوض ، والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض ، فلما رأوا العمل والربح في هذه العقود غير معلومين قالوا : هي على خلاف القياس ، وهذا من غلطهم ، فإن هذه العقود من جنس المشاركات ، لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض ، والمشاركات جنس غير جنس المعاوضات ، وإن كان فيها شوب المعاوضة ، وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة المحضة ، وإن كان فيها شوب المعاوضة حتى ظن بعض الفقهاء أنها بيع يشترط فيها شروط البيع الخاص . : " المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس "
وإيضاح هذا أن العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع :
[ ص: 291 ] العمل المقصود به المال على ثلاثة أنواع ] : أحدها : أن يكون العمل مقصودا معلوما مقدورا على تسليمه ، فهذه الإجارة اللازمة .
الثاني : أن يكون العمل مقصودا ، لكنه مجهول أو غرر ، فهذه الجعالة ، وهي عقد جائز ليس بلازم ، فإذا قال " من رد عبدي الآبق فله مائة " فقد يقدر على رده وقد لا يقدر ، وقد يرده من مكان قريب أو بعيد ، فلهذا لم تكن لازمة ، لكن هي جائزة ، فإن عمل العمل استحق الجعل ، وإلا فلا ، ويجوز أن يكون الجعل فيها إذا حصل بالعمل جزءا شائعا ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم ، كقول أمير الغزو " من دل على حصن فله ثلث ما فيه " أو يقول للسرية التي يسير بها " لكم خمس ما تغنمون أو ربعه " .
وتنازعوا في السلب : هل هو مستحق بالشرع كقول أو بالشرط كقول الشافعي أبي حنيفة ؟ على قولين ، وهما روايتان عن ومالك ، فمن جعله مستحقا بالشرط جعله من هذا الباب ، ومن ذلك إذا جعل للطبيب جعلا على الشفاء جاز ، كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القطيع من الشاء الذي جعله لهم سيد الحي ، فرقاه أحدهم حتى برئ ، والجعل كان على الشفاء لا على القراءة ، ولو أحمد لم يصح ; لأن الشفاء غير مقدور له ، فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه ، فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة ، دون الإجارة اللازمة . استأجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء
فصل
وأما النوع الثالث فهو : ما لا يقصد فيه العمل ، بل المقصود فيه المال ، وهو المضاربة ، فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كالمجاعل ، والمستأجر له قصد في عمل العامل ، ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئا لم يكن له شيء ، وإن سمى هذا جعالة بجزء مما يحصل من العمل كان نزاعا لفظيا ، بل هذه مشاركة : هذا بنفع ماله ، وهذا بنفع بدنه ، وما قسم الله من ربح كان بينهما على الإشاعة ، ولهذا لا يجوز أن يختص أحدهما بربح مقدر ; لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة ، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المزارعة ، فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها ، وهو ما نبت على الماذيانات وأقبال الجداول ونحو ذلك ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، ولهذا قال وغيره : إن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أمر لو نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز ، فتبين أن النهي عن ذلك موجب القياس ، فإن هذا لو شرط في المضاربة لم يجز ، فإن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين ، فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم [ ص: 292 ] يكن ذلك عدلا ، بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء شائع فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم ، فإن حصل ربح اشتركا فيه ، وإن لم يحصل شيء اشتركا في المغرم ، وذهب نفع بدن هذا كما ذهب نفع مال هذا ، ولهذا كانت الوضيعة على المال ; لأن ذلك في مقابلة ذهاب نفع المال ، ولهذا كان الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة بربح المثل ، فيعطى العامل ما جرت العادة أن يعطاه مثله إما نصفه أو ثلثه . الليث بن سعد
فأما أن يعطى شيئا مقدرا مضمونا في ذمة المالك كما يعطى في الإجارة والجعالة فهذا غلط ممن قاله ، وسبب غلطه ظنه أن هذه إجارة فأعطاه في فاسدها عوض المثل كما يعطيه في الصحيح المسمى ، ومما يبين غلط هذا القول أن العامل قد يعمل عشر سنين أو أكثر ، فلو أعطي أجرة المثل أعطي أضعاف رأس المال ، وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءا من الربح إن كان هناك ربح ، فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة ؟
وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة ظنوا أنهما إجارة بعوض مجهول فأبطلوهما ، وبعضهم صحح منهما ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه يمكن إجارتها ، وجوزوا من المزارعة ما يكون تبعا للمساقاة إما مطلقا وإما إذا كان البياض الثلث ، وهذا كله بناء على أن مقتضى الدليل بطلان المزارعة ، وإنما جوزت للحاجة .
ومن أعطى النظر حقه علم أن المزارعة أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة بأجرة مسماة مضمونة في الذمة ، فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض ، فإذا لزمته الأجرة ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل كان في هذا حصول أحد المعاوضين على مقصوده دون الآخر ، فأحدهما غانم ولا بد ، والآخر متردد بين المغنم والمغرم ، وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه ، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان ، فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر ، فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة .
[ ] الأصل في جميع العقود العدل
والأصل في العقود كلها إنما هو العدل الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب ، قال - تعالى - : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم ، وعن الميسر لما فيه من الظلم ، والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا ، وكلاهما أكل المال بالباطل ، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المعاملات - كبيع الغرر ، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه ، وبيع السنين ، وبيع حبل الحبلة ، وبيع المزابنة ، والمحاقلة ، وبيع الحصاة ، وبيع الملاقيح والمضامين ، ونحو ذلك - هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر ، فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يكريه الدار بما [ ص: 293 ] يكسبه المكتري في حانوته من المال هو من الميسر .
وأما ، بل هي من أقوم العدل ، وهو مما يبين لك أن المزارعة التي يكون فيها البذر من العامل أولى بالجواز من المزارعة التي يكون فيها البذر من رب الأرض ، ولهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزارعون على هذا الوجه ، وكذلك عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل المضاربة والمساقاة والمزارعة فليس فيها شيء من الميسر خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعملوها من أموالهم ، والذين اشترطوا أن يكون البذر من رب الأرض قاسوا ذلك على المضاربة ، فقالوا : المضاربة فيها المال من واحد والعمل من آخر ، فكذلك المزارعة ينبغي أن يكون البذر فيها من مالك الأرض ، وهذا القياس - مع أنه مخالف للسنة الصحيحة ولأقوال الصحابة - فهو من أفسد القياس ، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ، ويقتسمان الربح ، فهذا نظير الأرض في المزارعة .
وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الأرض فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي ، فالعامل إذا أخرج البذر ذهب عمله وبذره ، ورب الأرض يذهب نفع أرضه ، وبدن هذا كأرض هذا ، فمن جعل البذر كالمال في المضاربة كان ينبغي له أن يعيد مثل هذا البذر إلى صاحبه ، كما قال مثل ذلك في المضاربة ، فكيف ولو اشترط رب البذر عود نظيره لم يجوزوا ذلك ؟ .