[ ص: 2 ] ( كتاب الحدود ) .
لما كانت اليمين للمنع في أحد نوعيها ناسب أن يذكر الحدود عقيبها لأن الحد في اللغة المنع ومنه سمي البواب حدادا لمنعه الناس عن الدخول والسجان حدادا لمنعه عن الخروج ، وحدود الديار نهاياتها لمنعها عن دخول ملك الغير فيها وخروج بعضها إليه وسمي اللفظ الجامع المانع حدا لأنه يجمع معنى الشيء ويمنع دخول غيره فيه وسميت العقوبات الخالصة حدودا لأنها موانع من ارتكاب أسبابها معاودة ، وحدود الله محارمه لأنها ممنوع عنها ومنه { تلك حدود الله فلا تقربوها } وحدود الله أيضا أحكامه ; لأنها تمنع من التخطي إلى ما وراءها ومنه { حدود الله فلا تعتدوها } ولأن كفارة اليمين دائرة بين العقوبة والعبادة فناسب أن يذكر العقوبات المحصنة بعدها قوله ( الحد عقوبة مقدرة لله تعالى ) بيان لمعناه شرعا فخرج التعزير لعدم التقدير ولا ينافيه قولهم : إن أقله ثلاثة وأكثره تسعة وثلاثون سوطا ; لأن ما بين الأقل والأكثر ليس بمقدر ولأنه يكون بغير الضرب وخرج القصاص ; لأنه حق العبد فلا يسمى حدا اصطلاحا على المشهور وقيل يسمى به فهو العقوبة المقدرة شرعا فهو على هذا قسمان قسم يصح فيه العفو وهو القصاص وقسم لا يصح فيه وهو ما عداه وعلى الأول المشهور وعلى هذا يبنى عدم جواز الشفاعة فيه فإنها طلب ترك الواجب ولذا { الحد لا يقبل الإسقاط مطلقا بعد ثبوت سببه عند الحاكم حين شفع في أسامة بن زيد المخزومية التي سرقت فقال أتشفع في حد من حدود الله تعالى } وأما قبل الوصول إلى الإمام والثبوت عنده تجوز الشفاعة عند الرافع له إلى الحاكم ليطلقه ; لأن الحد لم يثبت [ ص: 3 ] كذا في فتح القدير والتحقيق أن الحدود موانع قبل الفعل زواجر بعده أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل وإيقاعه بعده يمنع من العود إليه فهي من حقوق الله تعالى ; لأنها شرعت لمصلحة تعود إلى كافة الناس فكان حكمها الأصلي الانزجار عما يتضرر به العباد وصيانة دار الإسلام عن الفساد ففي حد الزنا صيانة الأنساب وفي حد السرقة صيانة الأموال وفي حد الشرب صيانة العقول وفي حد القذف صيانة الأعراض أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على وما في البدائع من أنها خمسة وجعل الخامس حد السكر فلا حاجة إليه ; لأن حد السكر هو حد الشرب كمية وكيفية وإن اختلف السبب واختلف العلماء رحمهم الله في أن الطهرة من الذنب من أحكامه من غير توبة فذهب كثير من العلماء إلى ذلك وذهب أصحابنا إلى أنها ليست من أحكامه ، فإذا فالحدود أربعة لم يسقط عنه إثم تلك المعصية عندنا عملا بآية قطاع الطريق فإنه قال تعالى { أقيم عليه الحد ولم يتب ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا } فإن اسم الإشارة يعود إلى التقتيل أو التصليب أو النفي فقد جمع الله تعالى بين عذاب الدنيا والآخرة عليهم وأسقط عذاب الآخرة بالتوبة ، فإن الاستثناء عائد إليه للإجماع على أن ، وأما ما رواه التوبة لا تسقط الحد في الدنيا وغيره مرفوعا أن { البخاري } فيجب حمله على ما إذا تاب في العقوبة ; لأنه هو الظاهر ; لأن الظاهر أن ضربه أو رجمه يكون معه توبة منه لذوقه سبب فعله فتقيد به جمعا بين الأدلة وتقيد الظني مع معارضة القطعي له متعين بخلاف العكس كذا في فتح القدير وقد يقال : إذا كان الاستثناء في الآية عائدا إلى عذاب الآخرة لم يبق لقوله تعالى { من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه من قبل أن تقدروا عليهم } فائدة ; لأن التوبة ترفع الذنب قبل الأخذ والقدرة عليهم وبعدها فالظاهر أنه راجع إلى عذاب الدنيا لما سيأتي أن ، وإنما يبقى حد العباد عليهم من القصاص إن قتلوا والقطع إن أخذوا المال فصح العفو عنهم بخلافها بعد القدرة ، فإنها لا تسقط حق الله تعالى حتى لا يصح عفو أولياء المقتولين واستدل حد قطاع الطريق يسقط بالتوبة قبل القدرة عليهم الزيلعي على عدم كونه مطهرا من الذنب بأنه يقام على الكافر ولا مطهر له اتفاقا وزاد بعضهم ويقام على كره ممن أقيم عليه الحد ، والثاني ليس بشيء لجواز التكفير بما يصيب الإنسان من المكاره ، وإن لم يصبر كما نص عليه . الإمام الشافعي
والحاصل أن في نفس الأمر التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ، والإنابة ثم إذا اتصل بالإمام ثبوته وجب إقامة الحد على الإمام ولا يمتنع من إقامته بسبب التوبة ، وفي الظهيرية الواجب على العاصي ، فإنه لا يعلم القاضي بفاحشته لإقامة الحد عليه ; لأن الستر مندوب إليه ا هـ . رجل أتى بفاحشة ثم تاب وأناب إلى الله تعالى
[ ص: 2 ]