( باب النفقة ) .
هي في اللغة ما ينفق الإنسان على عياله ونحو ذلك قال تعالى { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم } ، ويقال أنفق الرجل من النفقة قال تعالى { لينفق ذو سعة من سعته } وأنفق القوم إذا أنفقت سوقهم وأنفق الرجل إذا ذهب ماله ، ويقال منه قوله تعالى { إذن لأمسكتم خشية الإنفاق } أي خشية الفقر ، ويقال نفقت السلعة نفاقا نقيض كسدت ونفقت الدابة نفوقا إذا ماتت كذا في ضياء الحلوم ، وبه علم أن النفقة المرادة هنا ليست مشتقة من النفوق بمعنى الهلاك ولا من النفق ولا من النفاق ، بل هي اسم للشيء الذي ينفقه الرجل على عياله ، وأما في الشريعة فذكر في الخلاصة ، قال هشام سألت عن النفقة ، قال النفقة هي الطعام والكسوة والسكنى ا هـ . محمدا
قالوا بالزوجية والقرابة والملك فبدأ بالأول لمناسبة ما تقدم من النكاح والطلاق والعدة . ونفقة الغير تجب على الغير بأسباب ثلاثة
( قوله ) أي الطعام والشراب بقرينة عطف الكسوة والسكنى عليها والأصل في ذلك قوله تعالى { تجب النفقة للزوجة على زوجها والكسوة بقدر حالهما لينفق ذو سعة من سعته } وقوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع { } وعليه إجماع الأمة ; ولأن النفقة جزاء الاحتباس فكل من كان محبوسا بحق مقصود لغيره كانت نفقته عليه أصله القاضي والعامل في الصدقات والمفتي والوالي والمضارب إذا سافر بمال المضاربة ، والمقاتلة إذا أقاموا لدفع عدو المسلمين واعترض بأن الرهن محبوس لحق المرتهن وهو الاستيفاء ; ولذا كان أحق به من سائر الغرماء مع أن نفقته على الراهن وأجيب بأنه محبوس بحق الراهن أيضا وهو وفاء دينه عنه عند الهلاك مع كونه ملكا له أطلق في الزوجة فشمل المسلمة والكافرة الغنية والفقيرة وأطلق في الزوج فشمل الغني والفقير والصغير والكبير بشرط أن يكون للصغير مال وإلا فلا شيء على أبيه لها كما قدمناه في مهرها ، ولم يذكر ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف المصنف طريق إيصال النفقة إليها وهو نوعان : تمكين ، وتمليك فالتمكين متعين فيما إذا كان له طعام كثير وهو صاحب مائدة فتمكين المرأة من تناول مقدار كفايتها ، فليس لها أن تطالبه بفرض النفقة وإن لم يكن بهذه الصفة فإن رضيت أن تأكل معه فبها ونعمت وإن [ ص: 189 ] خاصمته في فرض النفقة يفرض لها بالمعروف وهو التمليك كذا في غاية البيان وظاهر ما في الذخيرة أن المراد بصاحب الطعام الكثير أن ينفق على من لا تجب عليه نفقته فحينئذ هي متعنتة في طلب الفرض ; لأنه إذا كان ينفق على من لا تجب عليه نفقته فلا يمتنع من الإنفاق على من عليه نفقته إلا إذا ظهر للقاضي أنه يضربها ولا ينفق عليها فحينئذ يفرض لها النفقة ا هـ .
وظاهر ما في غاية البيان أن النفقة المفروضة تصير ملكا للمرأة إذا دفعها إليها فلها التصرف فيها من بيع وهبة وصدقة وادخار ويدل على ذلك ما في الخلاصة لو لا يفرض لها أخرى بخلاف المحارم ، ولو فرض لها دراهم وبقي منها شيء يفرض بخلاف المحارم ا هـ . سرقت الكسوة أو هلكت النفقة
وفي الذخيرة لو يفرض لها القاضي عشرة أخرى وفرق بين النفقة وبين الكسوة كما سنبينه في الكسوة ويدل عليه أيضا ما فيها أنهما لو اصطلحا بعد فرض النفقة على شيء لا يصلح تقديرا للنفقة كان معاوضة كالعبد فلولا أنها ملكت النفقة المفروضة لما كان معاوضة ، وفي القنية فرض لها القاضي عشرة دراهم نفقة شهر فمضى الشهر ، وقد بقي من العشرة شيء فهو تمليك لا إباحة ا هـ . قال لها خذي هذه الدنانير الخمسة لنفقتك ولم يعين الوقت
فيفيد أنها تملك النفقة بفرض القاضي أو بدفع شيء بالرضا لكن في الخلاصة والذخيرة إذا فرض القاضي النفقة فالزوج هو الذي يلي الإنفاق إلا إذا ظهر عند القاضي مطله فحينئذ يفرض النفقة ويأمره ليعطيها لتنفق على نفسها نظرا لها فإن لم يعط حبسه ولا تسقط عنه النفقة ا هـ .
فهي وإن ملكتها بالفرض لم تتصرف فيها بالإنفاق وتفرع على هذا ما لو قرر لها كل يوم مثلا قدرا معينا من النفقة فأمرته بإنفاق البعض وأرادت أن تمسك الباقي فمقتضى التمليك أن لها ذلك كما تقدم التصريح به عن الخلاصة والذخيرة في نفقة الشهر ولا فرق بين نفقة شهر أو يوم ، فليس فائدة أنه يلي الإنفاق مع فرض القاضي إلا لكونه قواما عليها لا لأنه يأخذ ما فضل وعلى هذا لو ، فليس له أكله والتصرف فيه إليها كما هو مقتضى التمليك ويدل عليه أيضا أنها لو أمرته امرأته بشراء طعام واشترى لها فأكلت وفضل شيء واستغنت عنه في يومها لا يفرض لها أخرى كما لو هلكت كما في الذخيرة ، فالحاصل أن المفروضة أو المدفوعة إليها ملك لها فلها الإطعام منها والتصدق وفي الخانية أسرفت في نفقة الشهر فأكلتها قبل مضيه واحتاجت كان لها أن ترجع بالمفروض على زوجها ا هـ . المرأة إذا فرضت لها النفقة فأكلت من مال نفسها أو من مسألة الناس
وفي البدائع وإذا طلبت المرأة من القاضي فرض النفقة قبل النقلة وهي بحيث لا تمتنع من التسليم لو طالبها بالتسليم أو كان امتناعها لحق فرض القاضي لها إعانة لها على الوصول إلى حقها الواجب وإن كان بعدما حولها إلى منزله فزعمت عدم الإنفاق أو التضييق فلا ينبغي له أن يعجل بالفرض ، ولكن يأمره بالنفقة والتوسيع إلى أن يظهر ظلمه فحينئذ يفرض عليه النفقة ويأمره أن يدفعها إليها لتنفق على نفسها ، ولو طلبت كفيلا بها خوفا من غيبته لا يجبره القاضي على إعطاء الكفيل عند واستحسن أبي حنيفة أخذ كفيل بنفقة شهر ويشترط لوجوب الفرض على القاضي وجوازه منه شرطان ، أحدهما طلب المرأة ، والثاني حضرة الزوج حتى لو كان أبو يوسف لم يفرض وإن كان عالما بالزوجية عند الزوج غائبا فطلبت المرأة من القاضي فرض نفقة عليه في قوله الأخير ; لأن الفرض من القاضي قضاء ، وقد صح من أصلنا أن أبي حنيفة لا يجوز من غير خصم . القضاء على الغائب
، وقوله عليه السلام لامرأة أبي سفيان إنما كان على سبيل الفتوى [ ص: 190 ] لا على طريق القضاء بدليل أنه لم يقدر لها ما تأخذه وفرض النفقة من القاضي تقديرها فإذا لم تقدر لم تكن فرضا فلم تكن قضاء وسيأتي تمامه فيما إذا غاب وله مال عند مودعه ، وفي الولوالجية الفتوى على قول في أخذ الكفيل بنفقة شهر ولم يذكر أبي يوسف المصنف تقديرا للنفقة لما في الذخيرة وغيرها من أنه ليس في النفقة عندنا تقدير لازم ; لأن المقصود من النفقة الكفاية وذلك مما يختلف فيه طباع الناس وأحوالهم ويختلف باختلاف الأوقات أيضا ففي التقدير بمقدار إضرار بأحدهما والذي قال في الكتاب إن كان الزوج معسرا فرض القاضي لها النفقة أربعة دراهم فهذا ليس بتقدير لازم ، بل إنما قدره لما شاهد في زمانه فالذي يحق على القاضي في زماننا اعتبار الكفاية بالمعروف وأصله حديث محمد هند حيث اعتبر الكفاية وفي البدائع ، وإذا كان وجوبها على الكفاية فيجب على الزوج ما يكفيها من الطعام والإدام والدهن ; لأن الخبز لا يؤكل عادة إلا مأدوما ، وأما الدهن فلا بد منه للنساء وفي الذخيرة قالوا واللحم ليس من الإدام خصوصا على أصل في اليمين ، فينظر إن كانت المرأة مفرطة اليسار تأكل الحلواء وما أشبه ذلك والزوج كذلك يفرض عليه مثل ذلك وإن كان من أوساط الناس فعلى ما يأتدمون به في عاداتهم يفرض على الزوج ا هـ . أبي حنيفة
وفي الأقضية يفرض الإدام أيضا أعلاه اللحم وأدناه الزيت وأوسطه اللبن ، وقيل في الفقيرة لا يفرض الإدام إلا إذا كان خبز شعير وفي فتح القدير والحق الرجوع في ذلك إلى عرفهم ا هـ .
وفي المجتبى والنفقة هي الخبز واللحم ودهن الرأس ودهن السراج وثمن الماء ، ولون من الفاكهة وعلى المعسر من الطعام خبز الشعير إذا كان ذلك طعام فقرائهم وعشرة أساتير من اللحم وخمسة أساتير من الشحم والألية ولا شيء لها من الفاكهة ا هـ .
فصار الحاصل أنه ينبغي بحسب عرف تلك البلدة ويقوم الأصناف بالدراهم ، ثم يقدر بالدرهم كما في المحيط إما باعتبار حاله أو باعتبار حالهما ، واختار للقاضي إذا أراد فرض النفقة أن ينظر في سعر البلد وينظر ما يكفيها المصنف الثاني وهو قول الخصاف وفي الهداية وعليه الفتوى ، وفي الولوالجية وهو الصحيح وعليه الفتوى وظاهر الرواية اعتبار حاله فقط وهو قول وبه قال جمع كثير من المشايخ ونص عليه الكرخي ، وقال في التحفة والبدائع إنه الصحيح نظرا إلى قوله تعالى { محمد لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها } ، واستدل في الهداية لاعتبار حالهما بحديث هند فإنه اعتبر حالهما ، وأما النص فنقول بموجبه أنه مخاطب بقدر وسعه والباقي دين في ذمته ، وحاصله أنه عمل بالآية والحديث